تخرُج تركيا على العالم بمسألتين أساسيتين. الأولى داخلية، هي مشكلة اللاجئين السوريين والكلام عن تجنيسهم، والثانية خارجية حول كلام رئيس الحكومة بن علي يلديريم عن إقامة علاقات طبيعية مع سوريا (والعراق).
مسألة التوطين
في المسألة الأولى، انشغلت تركيا على امتداد الأسبوعين الماضيين بقول رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان عشية عيد الفطر عن خطة إعطاء اللاجئين السوريين الجنسية التركية. استدرج هذا الكلام الكثير من النقاشات الداخلية. وقيل إن الهدف هو تأمين خزّان أصوات انتخابية جديد لأردوغان في الاستفتاء المحتمل لتغيير النظام من برلماني الى رئاسي. وهي بالنسبة لأردوغان قضية مصيرية، وهي الخطوة الأخيرة التي ترسخ نظام السلطنة الجديد.
ويرى البعض في خطوة فتح النقاش حول التوطين إلهاءً للرأي العام التركي عن الاتفاق التركي مع اسرائيل الذي لم يحقق مطلب رفع الحصار عن غزة والحرج الذي يشعر به الخطاب الإيديولوجي الإسلامي لحزب "العدالة والتنمية".
وهناك أيضاً من يرى في خطوة التوطين تغييراً للبنية الديموغرافية في تركيا تستهدف المناطق العلوية والكردية باعتبار أن غالبية اللاجئين من السُنّة ومن العرب.
لكن هناك من يرى أيضاً أن أردوغان يريد من وراء مسألة التوطين تحضير كتلة سكانية سورية تحمل الجنسية التركية وتكون لدى عودتها الى سوريا "جالية" سورية ذات بعد تركي.
ويمكن وصف الخطة بأنها "خبيثة" تحرّض على هجرة الأدمغة السورية التي لا تزال في سوريا الى تركيا عبر منحهم الجنسية التركية، خصوصاً أن أصحاب الكفاءات لهم الأولوية في نيل الجنسية.
والأمر لا يقتصر على اللاجئين السوريين. فما صرح به نعمان قورتولمش، نائب رئيس الحكومة، تخطى كل التخيلات. إذ قال إن كل مواطن يعيش في بلد كان تحت الحكم العثماني يمكن له أن يأتي إلى تركيا ويحصل على الجنسية التركية. وهذا توسيع لدائرة استجلاب الأدمغة من مختلف الدول ومحاولة لإحياء المشروع العثماني بطريقة جديدة وجعل تركيا مركز جذب لأحفاد من كانوا يحملون الجنسية العثمانية على امتداد قرون.
ويشرح قورتولمش، كما نائب رئيس الحكومة الآخر نورالدين جانيكلي، أن اللاجئين السوريين سيطبق عليهم "النموذج البلغاري" الذي طبقته تركيا مع المهاجرين البلغار في الثمانينيات الذين هربوا من سياسة البلغرة في العهد الشيوعي الى تركيا، ومُنحوا لاحقاً الجنسية التركية ومنازل بتقسيط طويل المدى.
ورداً على مطلب المعارضة إحالة مسألة التوطين على استفتاء شعبي، قال قورتولمش إن المسألة غير واردة، ولم يبق سوى بعض الخطوات الصغيرة التنفيذية. لكن قورتولمش ناقض نفسه وناقض أردوغان عندما قال يوم الأربعاء الماضي إن كلام أردوغان عن التوطين كان مجرد فكرة لم يتخذ بعد قرار نهائي بشأنها، علماً أن الاستطلاعات تشير إلى معارضة ساحقة من الشعب التركي كما من قواعد حزب "العدالة والتنمية" لخطة التجنيس.
التطبيع مع سوريا
في المسألة الثانية، أي تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا، كان ميزان النقاش ما قاله رئيس الحكومة بن علي يلديريم من أن تركيا تتطلع لعلاقات طبيعة مع سوريا والعراق وأنه لم يكن هناك أسباب جدية للنزاع معهما في السنوات الأخيرة.
السجال حول ما إذا كان هناك من تحول في السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا تحديداً كان مشروعاً، على اعتبار أن تركيا طبعت مع اسرائيل، كما بدأت بالتطبيع مع روسيا. ومن الطبيعي أن تستكمل الدورة بالتطبيع مع مصر وسوريا والعراق.
ويستدعي هذا النقاش المصحوب بعدد كبير من التساؤلات تسجيل بعض الملاحظات التي قد تساهم في توضيح حقيقة الصورة.
حتى الآن، يصدر هذا الكلام عن رئيس الحكومة ولم يصدر أي كلام ذي دلالة عن أردوغان نفسه. فقد كان الأخير هو الذي أحدث مفاجأة عندما قال مطلع العام الحالي إن تركيا بحاجة الى اسرائيل، كذلك هو الذي بعث برسالة "أسف" اعتذارية الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بينما الآن لم يصدر عنه أي موقف إيجابي من سوريا أو العراق أو حتى مصر، بل إنه ذهب بعيداً بالقول عشية عيد الفطر إن الرئيس السوري بشار الأسد أخطر من "داعش". ومن يريد فتح صفحة جديدة لا يطلق مثل هذا الكلام. وبما أن الأساس والقرار في السياسة الخارجية هو أردوغان وليس يلديريم ولا وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، فإن البوصلة في احتمال وجود تغيير أم لا هو ما يصدر عن أردوغان تحديداً.
لا شك بأن مسألة التطبيع التركي مع سوريا هي أصعب وأكثر تعقيداً من العلاقة التركية مع اسرائيل ومع روسيا. اذ إن تركيا كانت طرفاً مباشراً في الحرب ضد الدولة السورية، وهي تتحمل أكثر من سبعين في المئة من أسباب الدمار والقتل والتهجير واستمرار الحرب في سوريا.
ولا شك بأن لتركيا أسباباً يمكن أن تدفعها للتفكير في انتهاج سياسة جديدة تجاه سوريا، على رأسها منع قيام كيان كردي في سوريا وتزايد المخاطر الأمنية في الداخل التركي، ولا سيما بعدما مسّت التفجيرات بوابة تركيا الى العالم، أي مطار اسطنبول.
مع ذلك، فإن التصريح الأخير ليلديريم لقناة "بي بي سي" ينسف كل ما كان قد قاله عن تطبيع مع سوريا، عندما قال إن لا تطبيع مع سوريا في ظل استمرار الأسد في السلطة.
تقع مواقف يلديريم في إطار تحسين صورة تركيا في العالم وتقديم نفسها على أنها تريد السلم مع الجميع بدءاً من اسرائيل الى روسيا. كما ترمي أنقرة بالونات جس نبض، ليس لتطبيع العلاقات مع دمشق، بل للاستفادة من أي ردة فعل سورية سواء مرحبة أو رافضة، من أجل تطوير التكتيكات التركية ضد دمشق لا العكس.
خطوات التطبيع التركية تقف عند اسرائيل وعند روسيا. أما بالنسبة للتطبيع مع دمشق، فإن الكلام التركي يقع حتى الآن ضمن خانة التضليل والنفاق والخديعة. فقط عندما يتوقف الدعم التركي للمعارضة بالمقاتلين والأسلحة والاستشفاء، وعندما يتوقف شراء نفط "داعش" المسروق، وعندما تغلق تركيا حدودها وتخرج من دور الطرف المباشر في الصراع الداخلي السوري، تكون تركيا قد تخلت عن سياساتها السابقة. ليس مطلوباً من تركيا أن تعترف بشرعية الأسد، ولا أن تقترح شكل الحكم المقبل، فهذا شأن سيادي سوري. ولا أن تصنف المعارضة السورية بالمتطرف والإرهابي أو المعتدل. المطلوب منها شيء واحد، هو إغلاق تلك الحدود التي لم يمر عبرها في اتجاه سوريا سوى الموت والحقد ورياح المذهبية والفتنة. هذه التركيا عليها أن تعتذر والشيء بالشيء يذكر.
لقد طالبت تركيا اسرائيل بالاعتذار عن قتل تسعة ناشطين أتراك على متن أسطول الحرية وحصلت عليه. وطالب بوتين أردوغان بالاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية وقتل أحد طياريها وحصل عليه. أما بالنسبة لتركيا، فعليها أن تعتذر عن دورها في سفك الدم السوري بعشرات الآلاف ودورها في تدمير سوريا وتهجير أهلها. بل كما حصلت تركيا على تعويضات من اسرائيل عليها أن تدفع تعويضات عما ألحقته من دمار في البنية التحتية السورية وعما نهب من آثارها ومصانعها ونقل الى تركيا.
لا يكفي أن نقول عفا الله عما مضى.فالعقاب يجب أن يلاحق الجناة حتى النهاية. فالمسؤول عن كل تلك السياسات التركية يجب أن يلاحق ويحاسب. وكل قادة حزب العدالة والتنمية شركاء في تدمير سوريا، سواء كانوا الحاليين ام السابقين، وعزلهم عن موقع المسؤولية من قبل أردوغان الواحد بعد الآخر لا يعفيهم من المساءلة الدولية. أما إذا اختارت تركيا استمرار دعمها المطلق كما هو الآن للمعارضة بهدف إسقاط النظام فهذا شأنها هي التي لم تفكر بتغيير سياستها تجاه الآخرين إلا بعدما وصل الدور اليها.
تركيا بلد مجاور. والجوار الجغرافي يحتم العلاقة مع الجار ولو جار. ولكن أن تقلب تركيا الصحن الذي قدم لها بعد 90 عاماً من العداء التركي – العربي، وأن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فهو يؤكد أن تركيا بلد لا يمكن الوثوق بإمكانية إقامة علاقات طبيعية معه. فالعسكر والعلمانيون كانوا دائماً في حلف مع اسرائيل والغرب، ضد قضايا العرب التحررية. والإسلام التركي مع حزب "العدالة والتنمية" أثبت أنه أخطر من الحكومات العلمانية والعسكرية السابقة، إذ لم يكتف بمواصلة تحالفه مع إسرائيل، مسيئاً بذلك إلى الدور الجوهري للإسلام، بل مدّ يد الفتنة والتخريب إلى داخل كل بلد عربي من سوريا الى العراق ومن مصر الى ليبيا وتونس والإمارات واليمن. فمع أي تركيا يراد لنا أن نُطبّع؟
تركيا جارة لكن على أسس جديدة. التطبيع قياساً على التجربة الماضية هو وقف العمل المعادي ليس إلا، وعلى قاعدة كل واحد في أرضه، وخارج أي فذلكات أخوية ودينية ومشرقية واقتصادية، وعلى قاعدة "الباب الذي تدخل منه الريح سدّه واسترح".
السفير
Views: 7