بينما تستعر المعركة في حلب وعليها، يطلق وزير الخارجية الروسي من باكو موقفين: الأول "تشجيعي" باتجاه تركيا، والآخر"تصعيدي" تجاه المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا.
لا تزال موسكو ترسل بالونات الاختبار تجاه أنقرة بعد اعتذار الأخيرة. إذ ليس واضحاً تماماً إن كانت "الالتفافات" التركية الأخيرة هي فعلاً تغيرات جدية في سياستها تجاه جيرانها، روسيا وسوريا خاصةً، أم أنها مجرد مناورات أخرى تهدف إلى تخفيف الضرر الكبير الذي لحق بأنقرة من جراء سياسة رجب طيب أردوغان، التي نقلت تركيا من "صفر مشكلات" مع جيرانها إلى 100% مشكلات مع الجميع، حتى مع حليفها الأوثق الولايات المتحدة.
فتصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم حول أن بلاده تسعى "لتحسين علاقتها مع سوريا والعراق ومصر" غير واضحة، وتحمل العديد من المعاني، وخاصة في ظل تأكيد رئيس "الائتلاف السوري" أنس العبدة تلقيه "رسائل من تركيا"، تفيد بشكل واضح بأنه "ليس هناك أي تغييرات في السياسة التركية تجاه" الدولة السورية، وأن تركيا مستمرة في دعم ما يسمى "الثورة السورية" من دون أي تغيير.
وعلى الرغم من أن "الائتلاف" لا يمثل جهة موثوقة يعتد بما تقوله، فقد لا يتعدى الأمر أن يكون مجرد كلام يهدف إلى التخفيف من آثار تصريحات يلديريم التي بدت واضحة في "خيبة أمل" العديد من الذين يقفون ضد الحكومة السورية.
وفي الوقت نفسه، فإن روسيا، وكما يفسر الأمر متابعون، لا تبدو مرتاحة لشكل هذه التصريحات التي لا تعدو كونها كلمات عامة قد تطال الدولة السورية نفسها، أو قد تعني تحسين العلاقات مع القوى التي تقاتل ضد الدولة السورية!
سيرغي لافروف قال من باكو حول تحسُّن العلاقات الروسية-التركية: "آمل أن يساعدنا ذلك في البحث عن مقاربات مشتركة لتجاوز الأزمة السورية بفعالية أكبر"؛ غير أنه أشار إلى ضرورة العمل "بصورة أكثر صراحة للتوصل إلى اتفاقات بشأن تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي والمجموعة الدولية لدعم سوريا"، تلك القرارات التي تخرقها تركيا باستمرار عبر دعمها المجموعات الإرهابية الناشطة في شمال سوريا، ورفضها إغلاق حدودها بوجه إرهابيي "داعش".
وعملياً، لا يبدو أن شيئاً يتغير على الأرض؛ فالمجموعات الإرهابية المدعومة من تركيا تستهدف السكان المدنيين في حلب وشمال اللاذقية يومياً، خارقةً بذلك سلسلة من الهدن التي تم التوصل إليها، والتي هدفت أولاً إلى حماية المدنيين.
بيد أنه إذا نجحت السياسة الروسية في دفع تركيا إلى الموافقة على حل سياسي فعلي، فقد يكون ذلك مفيداً جداً للسوريين، وخاصةً في حلب؛ حيث يسقط العديد من الضحايا يوميا بقذائف المجموعات المدعومة من تركيا، التي تأتمر غالبيتها بأمر أنقرة مباشرة، أو هي مرتهنة للقرار التركي. وبالتالي، فإن تغيراً جدياً في السياسة التركية تجاه سوريا سيعني فائدة ملموسة للحلبيين، فيما ستعم الفائدة على مجمل الأزمة السورية إذا قررت تركيا أن تغلق حدودها بوجه الإرهابيين ووسائل دعمهم، وإذا قررت أن تنتقل إلى "الحرب على الإرهاب" الذي بات يطالها يومياً، بدلاً من أن تبقى في خندق "الحرب مع الإرهاب" الذي بقيت فيه منذ بداية الأزمة السورية، بل منذ بداية ما يسمى "الربيع العربي".
فقدرة المجموعات الإرهابية على الفعل واقعياً مرهونة بشكل شبه كلي بموقف أنقرة، وخاصة تلك الناشطة في شمال سوريا ووسطها؛ حيث تحصل على أشكال الدعم كافة عبر الحدود التركية، سواء المالية منها أو التقنية أو التسليحية أو البشرية.
ولا يبدو هذا مشجعاً للعديد من السوريين، الذين يعتقدون أن الحل الوحيد هو عملية عسكرية واسعة النطاق تجتث هذه المجموعات من شمال سوريا؛ لكنه يبدو كذلك بالنسبة إلى الكثيرين الذين يريدون حقن أي قدر من الدماء في حرب قتلت مئات الألوف، ودمرت البنية التحتية للبلاد، وعلى رأس هؤلاء موسكو التي ما زالت مصرة على أن حل الأزمة السورية هو حل سياسي وتحديداً عبر مباحثات تجمع الفرقاء السوريين برعاية أممية يقودها ستيفان دي ميستورا، وتفضي بدورها إلى حكومة وحدة وطنية تمثل الحكومة والمعارضة.
غير أن أداء دي ميستورا، وخاصةً بعد آخر جولة من المفاوضات في جنيف، بات محل استفهام حتى بالنسبة إلى موسكو.
ومن هنا، بدا لافتاً الانتقاد الصريح الذي وجهه، اليوم (12/07/2016)، لافروف إلى المبعوث الدولي الخاص بالأزمة السورية. فقد قال في المؤتمر الصحافي نفسه الذي عقد في باكو: "إننا قلقون مما يبديه ستيفان دي ميستورا من التقاعس في الإيفاء بالتزاماته المتعلقة بالدعوة إلى إجراء جولة جديدة من المفاوضات السورية".
فالنقد الروسي كان صريحاً وواضحاً بأنه لا يحق لأحد أن يقرر مصير السوريين عنهم. وهو الموقف الروسي الثابت منذ بداية الأزمة السورية. ولذلك تصر موسكو على أن أي حل للأزمة السورية هو حل يضعه السوريون أنفسهم عبر طاولة المفاوضات، وليس عبر أي اتفاقات ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة أو غيرهما.
لافروف، الذي قد يلتقي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري هذا الاسبوع في موسكو، أكد ألاَّ تغيير في موقف روسيا بشأن المجموعات المصنفة إرهابية في سوريا، وعلى رأسها "داعش" و"النصرة".
من جانبه، دي ميستورا لم يرد بعد على انتقادات لافروف. ومن المرجح ألا يرد لمعرفته أن ما صرح به (دي ميستورا) هو أصلاً مناقض لبيان جنيف ولقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والتي تؤكد جميعها بلا لبس أن الحل هو حصراً بأيدي السوريين أنفسهم، وأن على الآخرين أن يساعدوهم في الوصول إلى حل، وفي "تبني مواقف بناءة" حسب تعبير لافرف، لا أن يحلوا محلهم ويتفقوا نيابة عنهم.
علي حسون
Views: 5