الدكتور شادي عمار-سورية
الملتقى الادبي في بانياس
مدرسة النهضة الادبية الحديثة
من منّا لم يسمع بطاغور، شاعر الهند الأوّل. وهذه أوّل خطأ تاريخي يقع في تعريف الكاتب الكبير! فهو من البنغال ولادةً ونشأةً ولغة كتابة، أي (بنغلاديش) الحاليّة. ورغم أنَّ (الشّمس المشرقة) _وهو معنى اسمه في البنغاليّة_ وزّع حبّه ونضاله على كامل الهند، إضافةً لكفاحه ضدّ الدسائس البريطانيّة التي صدّعت جسد الأمّة الهنديّة ليس فقط إلى باكستان _حمايةً للجالية الإسلاميّة في الهند كما زعم المستعمرون_ بل إلى بنغلاديش أيضاً تلك التي فارقت الجسد الهنديّ العظيم.
الخطأ الثاني في التعريف هو الارتكاز في توصيفه إلى الشّاعر، وهو الذي كتب ثماني مجلّدات قصصيّة ومثلها روايات عدا خمسَ وعشرين مسرحيّة وعشرات المقالات والكتب التربويّة والسياسيّة، ولم يكن آخر نتاجاته الرسم بالحبر على الورق أواخر حياته.
كما أنشأ مدرسةً خاصّةً بافكاره ومبادئه، دُرّب فيها أطفال البنغال بطريقة مبتكرة وسابقة لذلك الأوان أوائل القرن العشرين، اعتمدت على الدراسة في الطبيعة وأعلى قمم الأشجار، وأن لاأسوار للمدرسة… تحوّلت إلى جامعة (فيسفا بهارتي).
جابه المحتلّ البريطاني، ورغم دراسته الجامعيّة في (لندن)، وافتتان الجمهور البريطاني والغربي بمؤلّفاته الباهرة، وحصوله على وسام (الفارس) أرفع الأوسمة الإنكليزية. فقد تخلّى عن تكريمه البريطاني ذاك إثر مجزرة (أمريتسار) المروّعة التي ذهب ضحيّتها زهاء أربعمائة متظاهر بنغالي بالرصاص البريطاني.
إضافةً لإقامته في مركبٍ جال به القسم البنغالي من نهر الغانج، خالط بني قومه واطّلع على أحوالهم المترديّة، وانتقد التقاليد البرهميّة وتقسيماتها الطبقيّة الصّارمة واللاإنسانيّة، فكان مصلحاً اجتماعيّاً عنيداً إلى حدٍّ بعيد!!
ألّف أكثر من ألفي أغنيةٍ، اثنتين منهما غدتا النشيدين الوطنيين للهند وبنغلاديش.
لن نتمكّن حقيقةً من الإحاطة الكاملة بهذا الإنسان الزاخر! مبدعٌ سامقٌ عانقت قامته الشّامخة نظيره الرائع المهاتما غاندي، في فترةٍ من أحلك فترات الأمّة الهندية. حاولا قيادة هذا المركب الهائل المتقلقل إلى برّ الأمان. سنلاحظ الخلاف الذي وقع بين الزعيمين الكبيريَن… نعم إنَّ (طاغور) هو قائدٌ سياسيٌّ مثّل الجموع العريضة لأهالي البنغال، اصطدم صدام المحبّ مع المهاتما المتصوّف! ووُسِمَ الخلاف الشهير (بالمغزل الهندي). قد يفاجئنا موقف الأديب والكاتب الرقيق من دعوةٍ طوباويّة تليق بخياله الجانح، بثّتها روح الهند غاندي، ومفادها ضرورة اعتماد الهنود على تراثهم ممثّلاً بالنول الهندي لحلج القطن، والاستغناء عن استيراد المكنة الأجنبيّة مع مايعنيه ذلك من ارتهان للغرب. بيدأنَ الشّاعر والمتصوّف البنغاليّ رفض فكرةَ الزعيم الهندي جملةً وتفصيلاً!!
يذكر التاريخ أنَّ المؤسّس الهنديّ (غاندي)، زار الأرياف الهنديّة الفقيرة بحفائه ومئزره المهلهل الذي اشتُهر بارتدائه. وهناك شجّع الوسائل التقليدية للزراعة والانتاج الهندي. جابه بالطّبع معارضةً شديدةً من الوطنيين في حزب المؤتمر المتحمسين للنهوض بالاقتصاد والاستثمار في طاقات البلاد الهائلة، لكن لم ينتبه أحد إلى ذات الخلاف قد وقع مع الكاتب الكبير، وقد اتّهم (طاغور) وبلهجةٍ قاسية أنّ مشروع المهاتما هو تسطيحٌ لقضيّة الهند!!
بالانتقال إلى أدبه فقد عُرف عن الكاتب تمرّده على أعراف الأسرة التي تمثل مرتبةً كهنوتية عليا في البراهمة، لم يكمل تعليمه العالي في بريطانيا كما كان مخطّطاً له، وعاد إلى مسقط رأسه (كالكوتا) بلا أيّ شهادة، سيّما وأنّ إخوته وأخواته وحتى والديه مثّلوا أكثر الأسر تعليماً وثقافةً ورواد تنوير. لكنَّ الإنسان داخل طاغور انتصرَ على المظاهر الكبرى والخادعة!
عدا عن كتابته باللغة بالبنغالية العاميّة لجلِّ كتاباته، ولم يترجم أعماله إلى الإنكليزيّة إلا صدفةً بعد بلوغه الخمسين، ذات يومٍ في طريقه إلى بريطانيا إذ شعر بالملل فتسلّى بترجمة بعض أشعاره إلى لغة العالم! ليطّلع عليها وبالمصادفة أيضاً صديقه الرسام الإنكليزيّ (روثنستاين). ماأثار ذهول الرسّام ودفع بالترجمة إلى أحد الشّعراء الإنكليز الذي عدَّ ماقرأه كنزاً روحيّاً غالياً يحتاجه الغرب في غمرة صعوده العسكريّ الدمويّ بحرَ القرن العشرين!
اعتمد طاغور في مقاربته الأدبيّة إن لم نقل في نظرته الشّاملة للحياة، على فلسفةٍ إنسانيّة رائدة في ذلك الزّمان الضروس! نعلم أنّ القرن العشرين كان مسرحاً لأشدّ الصراعات الدمويّة، ولم تتبلور حقوق الإنسان بعد، في مقابل البزوغ الشوفيني والعنصريّ للقوميّات والعصبيّات الدينيّة! سيذكر التاريخ أنَ طاغور الهندوسي ألقى بلائمة تقسيم الهند على الهندوس أغلبيّة الهند العظمى ومنها أهله. بلا مراعاة لحساسيّة ماسيجرّ عليه هذا الموقف الجامح! فكانت رواية (جورا) وروايته الأروع (البيت والعالم) والتي حاز بسببها على جائزة (نوبل) للآداب سبباً في نزوحه عن الهند وإقامته فترةً ليست بالقصيرة في معقل محتلّها الإنكليزي!
هي مفارقةٌ حقّاً اضطرار الأدباء والمفكرين الإقامة في ربوع مستعمري أممهم، خوفاً من مواقفهم الوطنية الإنسانيّة والتي لن يفهمها مواطنوهم ببساطة!!
المنظور الإنساني لطاغور لم يأتِ من فراغ، فالتراث الهنديّ الهائل يمجّد الحكمة وعبر تعاليمه المعقّدة يُرسّخ النورانيّة والعرفانيّة. تراثٌ أخذت منه مجموعات كثيرة في عالمنا العربي وألقت بظلالها على الفكر الشرقيّ والإسلامي.
التجاوز الذي شكّلته حالة طاغور هو الانتقال من منظور إقامة الشّعائر الطّقسي إلى الإسقاط الإنساني ككلّ، فمحبّة الإنسان ليست واجباً دينياً بل فلسفةً وطريق خلاص!
نستطيع القول أن روايته الأخّاذة (البيت والعالم)، والتي استُلهمت من التراث الهندي الدينيّ، وتناولت حقبة ظهور القوميّة الهنديّة والبنغاليّة، مفنّدةً خطورة الشّعور القوميّ الضيّق إزاء البحر الإنسانيّ الواسع. الرواية تناولت ثلاثة شخصيّات بأسلوب سردٍ مبتكر، تتناوب الشخصيات في حكاية كلٍّ منها بفصول مخصوصة، (نيكهيل) الفنّان الراقي الثريّ والذي يُدافع عن الوجه الإنسانيّ للأمّة الهنديّة، ويمرّر الكاتب فصلاً من وقوف (نيكهيل) في وجه ترحيل المعلّمة الإنكليزية لتعاظمِ المدِّ القومي. وكيف خجلت منه زوجته الحبيبة (بيمالا) الشخصيّة الأكثر إشكاليّة في الرواية. تناولها طاغور بحساسيّةٍ عالية، منتقداً الطقوس الدينيّة البرهميّة التي تقيّد المرأة، والنظرة الدونية عند المرأة نفسها في نظريّةٍ باكرة عن المساواة بين الجنسين والفارق الإنساني لاالديني أوالوطني!!
الشخصيّة الثالثة (سنديب) يمثّل في الرواية حركة التحرّر وروح الشّباب الهندي إبّان المقاومة الوطنيّة للمستعمر، وبذكاء يصّور طاغور الجانب الآخر من (سنديب)، الجشِع الذي يغلّف أطماحه بقالبٍ وطنيّ، طبعاً هذا أمرٌ نبّه له طاغور ووقعت الهند في ويلاته زمن الاستقلال، وقتَ سعتِ النُّخب التي قادت نضال البلاد إلى اقتسام المناصب والثروات وبالتالي نشر الفساد في الوطن الوليد!!
ينطلق طاغور في رؤيته للعالم إذاً من أطرٍ تُعدُّ في ذلك الزمان غير مألوفة. فمن ينسى وطنه ودينه وحتّى أسرته وعشيرته في سبيل بناء الإنسان المنزّه عن هذه القيود الدنيا!؟ لقد زلزل طاغور حتى في طريقة حياته المُثل السّائدة في حينه، ولكم أن تتصوّروا اختلاطه بأحطّ طبقات الهندِ الدينيّة (الباريان) أوالأنجاس في الهندوسيّة!!
يعبق أدب طاغور بالحبِّ النقيّ لاتتلفّت في حنايا بساتين المهراجا الفيحاء إلا وتطالعك زهرة العشق! وقد اتّسم أدبه إلى حدٍّ بعيد بنزعةٍ توجيهيّةٍ تعليميّة عَنى من ورائها النهوض بحال الأمّة الأفقر طُرّاً. ربّما هي سقطةٌ في النقد الأدبي الراهن انغماس الكاتب في الوعظيّة، لكن أدبَ ذاك الزمان حملَ الرسالة مضحيّاً بجماليّات الكتابة الأخرى. هو الواقع المزري لبلادٍ احتُلَّت وقُسّمت وعانت من المذهبيّة ونكول عجلة التقدّم والجوع.
من البدهيّ إذاً… رجوعاً إلى العائلة الشديدة التثقيف والتي بزغ منها الفنّانون والمعلّمون، وإلى التمرّد الهائل عند طاغور، أن يختتمَ الشّطر الأخير من حياته بالرسم… فريشة القلم لاتختلف عن ريشة الألوان، فمتى وهبت الأولى اللون لحياتنا بذلت الثانية اللون لأعيننا!!
وأعتقد أن لجوء (الشمس المشرقة) للرسم بعد تعدادٍ هائل من المؤلّفات، تنبّهه لمأساة أميّة الشعبين البنغالي والهندي… فأرشدته العبقريّة إلى الرّسم بتقنيّة الحبر على الورق. وهي تقنيّةٌ يابانية تكتسي المسوح الدينيّة، رأى فيها هواه من بساطتها وجلاء فكرتها… رسمَ الهند الكبرى بنسائها وطيورها. اللافت أنَّ الزّعيمَ والمصلح الكبير ركّز جلَّ الاهتمام في لوحاته على المرأة كما عهده في أدبه، نستطيع القول أنّها حربٌ رومانسيّة شنّها ابن الكهنة ومشائخ الهندوس على المُعتقد الأثيم! فالتركيز على الطبقات المستضعفة اتخذ شعاره المرأة، ومَن من المتنوّرين في أيّ مكان لم يرفع شعار تحرّر المرأة طريقاً للتحرّر العام!
هذا وتبزغ في الرسوم محاولاتٌ دائبة للدقّة والمثاليّة، إذاً احتفى طاغور بالمذهب الكلاسيكيّ التصويريّ، مبتعداً عن التجريدية وسواها من المذاهب التي صعدت في تلك الفترة. إيماناً منه بالرساليّة التي تقتضي الوضوح إلى حدٍّ بعيد في مخاطبة الجموع المخضّبة بالعوَز والجهل.
فشل (طاغور) في السياسة وقتَ حكّمها كشعره وفنّه مثل مواطنه (غاندي)!! انتصر الانفصاليون والمتشدّدون القوميّون والدينيّون. وربّما هذا أقسى ماآساه بعد الفجائع المريرة على صعيده الشخصيّ من وفاة الزوجة المحبّة والأب والأبناء! لكنَّ الفجيعة ألهبت الشّمس فتوهّجت على مستنقعات الوهمِ والخيبة وانحطاط الإنسان، أضاء (طاغور) سماء العالم في حين بقيَ موطنه معتماً! وظلَّ حتّى إجراء الجراحة الفاشلة لجسده يحاول إشعال ضوء نهاية النفق بتصميمٍ لامثيل له!!
Views: 0