حلب يا قلعتنا الشهباء يا مدينة الرخاء يا هدية السماء ويا أم البقاء ويا قمراً أضاء الزمان فتدافعت النجوم نحوها بخيلاء لتكون لها قلادات بهاء وتخشع الأقدار بينما أبوابها الحانيات الحاميات تصون حلب وتدرأ عنها كل اعتداء.
حلب الوجع والألم…حلب الدمار والدماء، حلب ومصرع الأطفال والشباب والنساء في هجمة بغاء، اعلمي أن كل ذلك إلى براء قريب رغم قلوبنا التي خشعت حتى لامست حدود الفلسفات في البحث عن العلة والأسباب وطافت عيوناً بالدموع حتى ذهلت حيالها أمطار الشتاء، لكن من يملك التاريخ يا حلب لا يخشى الفناء، ومن يقول إن حلب خانها المجد وضاعت من معراجها في إسرائها القدير إلى يقين الخلود، فهذا مقال غير قويم ومفاتيح بوابات الانتصار مخبأة في شغاف صباحات سورية جليلة والأماسي الوقورات موشحات بأساطير جديدة محوكة بخيوط من لجين السماوات التقيات الصافيات الزاحفات بكل إقدام غيور على مواكب النور لنصرة كل مظلوم ومقهور وكل دم سال من جنباتك على ترابك الأبي الذي لفظ العابرين بهتانا إلى أرض الكرام فما كان لهم يوماً ولن يكون.
حلب يا فارسة الشمال والصبية البيضاء النقية التقية العصماء اصمدي فشرفك المصون في حقائب الحق لن تلمسه أيادي الطغيان، ولن تحقق للدخلاء أهدافهم الممهورة بتواقيع بلفورية كما حدث في قدسنا البهية. لا يقل أحد إن ذلك قد لا يحصل..لا… وهي العتيدة المجيدة الثابتة الباقية الولودة المبدعة العريقة الصامدة، التي قطفت من الأشعار خمائل قصائد جسورات وحسناوات من قوافي الأندلسيات التي تسلب الألباب غلفت ماضيك وحاضرك ومستقبلك بنبضات من شرايين الشجعان الذين يتقدمون بالملايين من دمشق من حمص من حماة من معرة النعمان من الساحل والسويداء والجولان ليغمدوا في صدر الباطل أنصال الإيمان التي استيقظت الدنيا على وقع صهيلها الرنان، وهي تزمجر كعواصف هوجاء زفرتها طبيعة ساحرة تفرش حلب الباهرة بمروج من علم وأدب وصناعة وتجارة ماهرة، وحين سالت الاشتهاءات وبانت للعلانية نزوات عرجاء لأهل الادعاءات غضبت الطبيعة، ولملت حجارتها الشهباء وصنعت منها متاريس وفاء لخلودك الأزلي يا حلب الرجاء.
حلب يا أم المدائن قري عيناً ولا تحزني فها هو سيف الدولة الحمداني يرتل اسمك بشغف العشاق أمام عيونهم العمشاء، ونضارة خلودك تقرع طبول الوجدان بأنك ابنة سورية الجميلة المدللة التي حدثتنا عن «سيف الدولة» الدكتورة نجدة خماش أستاذة التاريخ بأنه كان فارساً وشجاعاً لا يجارى ولا يهين له جانب حتى أرّق مضاجع البيزنطيين وحاربهم طويلاً منتصراً عليهم في حلب ومناطق الثغور الممتدة في الشمال، حتى قال في ذلك شلومبرغر في كتابه عن نقفور فوكاس مشيراً إلى أن المتصفح للتاريخ يجد اسم سيف الدولة يطفو على معظم صفحاته كإنسان شجاع لا يمل ولا يكل، وذلك حين تصدى مطولاً لكل محاولات البيزنطيين حتى خلق حاجزاً منيعاً لقوته حال دون تكرار محاولاتهم العقيمة للسيطرة على حلب وامتداداتها السخية بالزيتون والفستق وروائح الزعتر تسرح في أنوفهم الطويلة بينما الغار يرغي ويزبد ليشطف آثامهم الخطيرة.
لم يكن سيف الدولة رجلاً قوياً فحسب، بل تمكن من مد نفوذه على مساحات شاسعة بل كان رجل أدب وشعر وقف في بابه من العلماء وأهل الأدب ما لم يقف بباب أحد، ولقد أحب الشعر ومما قاله من شعر كان مستحسناً وجميلاً بعض أبيات وجهها لأخيه الناصر الذي يكبره بعشر سنوات ووقع بينهما الجفاء: «لست أجفو وإن جفوت/ ولا أترك حقاً عليّ في كل حال..إنما أنت والد والأب الجافي/ يجازى بالصبر والاحتمال»، حسب أقوال «الغزولي» في كتابه «مطالع البدور».
لتبقى نفوس السوريين يا حلب في كل زمان مضاءة بقناديل العشق، ويفترش السعد بهياً كل مناطق السبيل والمحافظة وساحة عبد الجابري بكل صفاء وابتهاج، فإن كان يا حلب للباطل جولات؛ فحقك في الأمان والسلام له ألف جولة وجولة، وستهوي هنا انكساراً وانهياراً غربانهم السوداء من سمائك العلياء. حلب أبواب سورية تطرق وتفتح اليوم لاحتضان آلامك وأمجادك وعناق سكانك وبقايا عمرانك وتشرق الأقدار بشموس النجاة.
وها هي عواطف سامية بتول من أغان لا يمكنها الأفول تنسكب كالهدوء النبيل على قلوب السوريين المتوثبة نحو الشمال، حيث ترمحين بالصمود رغم كل العناد الذي يركب رؤوس الطامعين وشادي جميل يصدح بصوت من خيال قائلاً: «شهبا وش عملوا فيك بجنون هدوا ماضيك والله من حرقة قلبي عمرين لو عشت أبكيكي..». بينما عميد الغناء الحلبي صباح فخري من رحابك الطاهرة يشدو بصوت استقدمه من أصالة العنفوان والأمل تاجه والإيمان صولجانه «درب حلب كلّو شجر زيتوني وبكره نجيئك يا عيوني…ويا ويلي»
وليس يا ويلي يا حلب إلا على من أشعل في جنباتك نيران أبي لهب، وظن أنك ضائعة لا محال، بعيداً بلا أحباء ولا أبناء يفتدونك في كل ثانية ودقيقة حتى يذهل العجب…عشرون مليوناً من السوريين في حالة تأهب لإنقاذك من ضلال الضالين وظلم الحاقدين، وليست تلك المكيدة على كنوز عزتك هي أولى نوائبك فابشري لأن مصابك مصاب الشام كلها و«يا مال الشام» تسافر إليك على أثير من مكنونات صدق تقول قلوبنا ترحل إليك وتميل إلى الانصهار بك يا فخر نفائسنا وتضمك أرواحنا طويلاً، ثم سنقفز بعزائمنا اللامحدودة معاً فوق جراحاتنا فالعزة إحدى ملاحمنا، وحلب ودمشق هما سفيراتنا إلى إعادة الجلال والكمال إلى مدينة النور، والحق المهدور والدم المنساب والبناء المنهار سيكونون في دروب عزتك رسائل إصرار لإنقاذ كل طفل أو رجل من أي غدر أسود ماكر شائن.
لكن في النهاية لابد من القول إن ما جرى في حلب الشهباء هو درس له وزن واعتبار كي يتفهم السوريون أجمعين أن وحدة البلاد هي أسمى غايات العباد وان حلب الشهباء مازالت لها الصدارة ومازالت قمة منعاء وحكاية عصماء سيركع التاريخ قريباً أمام ثباتها وكل بصماتها على جدران الزمان التي تحمل أرقى معاني خلودها الفتان ليلتمس منها الصفح والغفران وستكون استعادتها إلى صدورنا الخافقات من أكبر تحديات السوريين في تاريخهم الحديث.
Views: 1