كان علينا أن ننتظر دهراً حتى تصبح الاحتفالات برأس السنة السورية مشروعة تعمّ مختلف المناطق السورية، فالمناسبة لم تبدأ بالظهور في وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي إلا العام الماضي عندما أنشأ سوريون صفحة مخصصة لإحياء «الأكيتو» وشارك فيها الكثير من الكتاب والمثقفين والفنانين..
أما هذه السنة فقد قرأنا عن احتفالات في معظم المحافظات السورية اتخذت من المتاحف والأوابد الأثرية والجامعات مكاناً لها وشاركت فيها شرائح مختلفة أكاديمية وإبداعية وشعبية. اللافت في الأمر، أن هذا الاحتفاء كما هو واضح من «الفيس بوك» شمل العراق والشام من دون تخطيط مسبق بين الجانبين، فقد كتب الشاعر العراقي علي أصلان على صفحته في الفيس بوك: «اليوم عيد رأس السنة البابلية «أكيتو».. أصبح عمر العراق 6766 سنة.. نحن أبناء هذه الحضارة، ولسنا أبناء الصحراء ولا علاقة لنا بالبدو».
هذه العبارة استدعت الكثير من التعليقات عن معنى الاحتفاء بعيد رأس السنة البابلية، السورية أو العراقية لا فرق، لكن ما كان لافتاً هو أن هذه العودة إلى الجذور في احتفالات الأكيتو هي عودة أهلية يمكن تلمسها على مواقع التواصل ضمن مشاركات لمثقفين ومهتمين وشخصيات عامة لم يتوقف الجميع فيها عند ماهية التسمية إن كانت لأن التعاقب التاريخي بدءاً من البابلية إلى السريانية مسلّمٌ به عملياً، لكن ما شكّل قاسماً مشتركاً بين مختلف المناطق هو ضرورة إعادة المجد للأكيتو، يكتب ابراهيم عجول قبل يوم من هذه المناسبة على صفحته في الفيس بوك: «الأول من نيسان..عيد الأكيتو، رأس السنة البابلية الآشورية السريانية السورية عام 6766، هو يوم زيارة عشتار أم الكون للعالم السفلي، كي تسترجع دموزي من أسره هناك.. هو يوم الخصب والانعتاق والانبعاث.. يوم تسليم عشتار صولجانها وتاجها وإسوارتها لآلهة العالم السفلي أرشيجيكال كي تسترد دموزي الحبيب الذي مازال ينتظر منذ تموز حتى الآن.. أكيتو مبارك لبلادي ولشعبي ولأمتي ولتاريخي الذي يعاني اليوم أكثر ما عانى على مر تاريخه منذ سبعين قرناً حتى اليوم.. ليكن الأكيتو لحظة انبثاق سوريانا من جديد نحو الشمس لتعود أمة في جبين الشمس…. أكيتو بريخو».
صفحات التواصل الاجتماعي حملت الكثير من مجريات الاحتفاء والنقاش عن أهمية المناسبة، فقد نشرت صفحات مختصة بالتاريخ أجزاء مطولة من زاوية الكاتب حسن م. يوسف عن المناسبة التي نشرها سابقاً في جريدة الوطن السورية، وتمحورت حول الأكيتو وضرورات الاحتفاء به والأسباب التاريخية التي جعلته يتوارى أو يغيب ليحل مكانه ما يسمونه بعيد الكذب في الأول من نيسان، يقول يوسف: «التقويم السوري يتقدم على التقويم العبري بألف عام، وعلى الفرعوني القديم بخمسمئة عام، وهو مرتبط بأساطير الخصب المنبثقة من أحوال الطبيعة وتعاقب الفصول. يرتبط التقويم السوري بعشتار الربة الأم الأولى منجبة الحياة…هذا العيد أُخذ منا ثلاث مرات، الأولى عند فرض التقويم اليولياني، والثانية عند فرض التقويم القمري، والثالثة عندما أمر شارل التاسع ملك فرنسا قبل أربعمئة وخمسين عاماً باعتماد التقويم الغريغوري، ونقل رأس السنة من أول نيسان إلى أول كانون الثاني. فقد أطلق على رأس السنة السورية اسم April fool أي «أحمق نيسان»، وهي عبارة كانت تطلق على أي شخص ينسى أن رأس السنة قد تم نقله من واحد نيسان إلى 1 كانون الثاني».
يتحدث الدكتور عبد الوهاب أبو صالح مدير خان أسعد باشا التاريخي عن العديد من الأعياد السورية القديمة التي يحتفي بها الناس من دون معرفة أصلها بالضبط، ومثالها عيد الرابع من نيسان وهو ضمن سلسلة الأعياد السورية القديمة، كذلك الأمر بالنسبة لعيد الحصاد حيث اعتاد الفلاحون السوريون حتى اليوم أن يحتفظوا بحزمة من السنابل يعلقونها في المنزل من دون أن يعرف الكثيرون السبب وهي تدل على ضرورة الربط مع إله الحصاد حيث يعمدون إلى فرط السنابل في موسم الزراعة القادم ثم يقومون بخلطه مع البذار الجديد من أجل زراعتهم في الأرض.. يقول أبو صالح: «إن استعادة الأعياد السورية القديمة تبدو ضرورية من الناحية الثقافية والاجتماعية ومن ناحية التأكيد على الهوية، فهناك الكثير من الطقوس السورية ومن العبارات والمناسبات التي يمارسها الناس من دون أن يعرفوا حقيقتها التاريخية، لذلك فإن الاحتفال برأس السنة السورية «الأكيتو» يعد أمراً مهماً يدل على وعي جديد لدى مختلف الشرائح السورية التي تعيد اكتشاف تلك المراحل المجهولة من تاريخها وإعطاءها حقها الصحيح».!
الفنان التشكيلي ابراهيم الحميد رسم الآلهة عشتار في أعمال كثيرة، فهو ابن البيئة الفراتية، وخبر مختلف الأساطير والمناسبات السورية القديمة بشكلها العفوي على الأرض، ثم أخذت الملحمة بعداً مختلفاً في لوحاته عندما حاول أن يحاكي الجمالية السورية القديمة بجماليات معاصرة.. يقول: «الملحمة تظهر لنا الصورة المتكاملة عن المرأة من خلال الصراع الرائع ما بين القوة والجمال، حيث تقدمها الأسطورة بشكل المرأة التي تملك الكثير من خصائص الحياة في التحمل والجمال والمثابرة وهي تتفوق بخصائصها على جلجامش الإله الرجل (جيل أميش) الذي يمثل القوة والطيبة عشتار تلك الحبيبة والأم ذلك الجمال والدهاء استطاعت التغلب على كل المصاعب، تقول الأسطورة إنها كانت تحول كل الرجال الضعفاء إلى حيوانات تزين حظيرتها، إلا جلجامش القوي المسيطر على غرائزه، عشتار تلك الصورة العامة للمرأة التي تملك أعتى قوة في الحياة، وهي الجمال، هي الأرض الخصبة المتصلة تماماً بالأكيتو عيد رأس السنة السورية حيث تسترد حبيبها دموزي من العالم الأسفل ليبدأ الربيع..».
الشاعر العراقي كاظم خنجر وصف إعادة الاحتفاء بعيد رأس السنة البابلية في الشام والعراق على أنه أمر طبيعي كان لابد من أن يحدث منذ زمن طويل، لأن المدَنية في هذه المنطقة لابد من أن تغادر التأثيرات الصحراوية بشكل نهائي عبر الفنون والطقوس والمناسبات التي تنطوي على دلالات كبيرة، يقول: «العودة إلى إحياء طقوس هامة مثل عيد رأس السنة البابلية، يعد عودة إلى المدنيات الحضارية التي امتازت بها الحضارات الأولى في المنطقة كالسومرية والبابلية والكنعانية وأيضاً المصرية.. أعتقد أن تلك العودة إضافة إلى أمور ثقافية كثيرة إلى جانبها يمكن أن تكون حلاً في التخلص من المظاهر الصحراوية التي تتلبس الذهن في منطقتنا وهي ليست منه، بل دخيلة عليه».
يشرح خنجر أن هذا الأمر ينساق ضمن التطور التاريخي الطبيعي للثقافات والتفاعل بين الإنسان والبيئة، لذلك فلا غرابة في أن يقوم المثقفون العراقيون في كثير من الاختصاصات بالتذكير بمناسبة «الأكيتو» والاحتفاء بها، حيث انسجم ذلك مع الاحتفالات في الشام عموماً لأن الامتداد التاريخي واحد، يقول: «ارتباط الإنسان بالمكان هو أمر لا شعوري، فرغم قسوة الحضارة التي يعيشها المرء مقارنة مع الحضارة الأولى التي ارتبطت بالمكان وأنتجته، إلا أن الإنسان لا يمكنه الانفصام عن المجال الحيوي الذي ينتمي إليه رغم التأثيرات الطارئة التي يمكن أن تطرأ.. الفعل المقدم هو شعوري ولا شعوري.. أي بمعنى هو شعوري من ناحية استعادة الحضارة الأولى وتعزيز قيمتها ولا شعوري لأنه مرتبط بالامتداد السلالي والجيني لإنسان هذه المنطقة رغم التقسيمات التي تظهر على الخريطة».
الشاعر العراقي مازن المعموري عاد إلى تاريخ المناسبة كاشفاً دلالاتها الحضارية التي يأتي الاحتفال بها اليوم حاسماً بضرورة القطع مع التأثير الصحراوي على المخيلة والذائقة الفنية في منطقتنا المتمدنة منذ ما قبل التاريخ.. يقول المعموري: «لا غرابة اليوم في أن نجد هذه التوجهات الداعية إلى إعادة إحياء هوياتنا الأولى في بلاد الرافدين والشام, بدءاً بعيد الأكيتو (أكيتو بالسومرية: أكيتي سنونم) (ريش شاتين بالأكادية)، هو عيد رأس السنة لدى الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين) بما أننا في الأصل حضارة مدنية ولسنا حضارة بداوة, بعد أن وجد الناس أن الثقافة الصحراوية هي ثقافة رفض للآخر ومحو لظاهرة الحوار والتمدن, كما اكتشفناها اليوم على يد الجماعات المتطرفة دينياً ومحاولاتهم الحثيثة لإعادة إحياء الإرث الدموي بكل تفاصيله المروعة, وهذا يعني أن الرد الثقافي لاستعادة الهويات البدئية ما هو إلا رد حاسم لإيجاد بديل حضاري يقدس الحياة ويحترم الإنسان بعيداً عن مظاهر البداوة العدوانية التي جاءتنا من الصحراء, وهو ما أؤيده تماماً بصفته حتمية تاريخية لجدل الصراع الشرق أوسطي المعاصر».
ارتفعت وتيرة الاحتفالات هذه السنة وحضر عيد الأكيتو بشكل طبيعي وعفوي في مختلف المناطق الشامية والعراقية، وتساءل الكثيرون: لماذا لا يتحول الاحتفال إلى كرنفالات رسمية وشعبية كبيرة مثلما فعل الصينيون في عيد رأس السنة الصينية عندما أقامت الجالية الصينية احتفالاً كبيراً في بريطانيا؟ ولماذا لا يدخل هذا الكرنفال السوري في بعده الثقافي والجمالي ضمن مناهج التربية والثقافة التي تميل غالباً نحو التفسير الصحراوي للأدب والشعر وتحديد الذائقة الجمالية للأجيال استناداً لحساسية لا تعبر عنّا تماماً؟. هل يمكن إعادة وصل المشروع مع الجماليات العائدة لآلاف السنين قبل الميلاد على أساس أنها جزء من شخصيتنا قبل أن تتلوث الذهنية بكل أنواع الأوبئة والغزوات؟. الأسئلة التي يطرحها الاحتفال بالأكيتو هذه السنة كثيرة، ومن المؤكد أن هناك الكثير من الجدل في الطريق
أما هذه السنة فقد قرأنا عن احتفالات في معظم المحافظات السورية اتخذت من المتاحف والأوابد الأثرية والجامعات مكاناً لها وشاركت فيها شرائح مختلفة أكاديمية وإبداعية وشعبية. اللافت في الأمر، أن هذا الاحتفاء كما هو واضح من «الفيس بوك» شمل العراق والشام من دون تخطيط مسبق بين الجانبين، فقد كتب الشاعر العراقي علي أصلان على صفحته في الفيس بوك: «اليوم عيد رأس السنة البابلية «أكيتو».. أصبح عمر العراق 6766 سنة.. نحن أبناء هذه الحضارة، ولسنا أبناء الصحراء ولا علاقة لنا بالبدو».
هذه العبارة استدعت الكثير من التعليقات عن معنى الاحتفاء بعيد رأس السنة البابلية، السورية أو العراقية لا فرق، لكن ما كان لافتاً هو أن هذه العودة إلى الجذور في احتفالات الأكيتو هي عودة أهلية يمكن تلمسها على مواقع التواصل ضمن مشاركات لمثقفين ومهتمين وشخصيات عامة لم يتوقف الجميع فيها عند ماهية التسمية إن كانت لأن التعاقب التاريخي بدءاً من البابلية إلى السريانية مسلّمٌ به عملياً، لكن ما شكّل قاسماً مشتركاً بين مختلف المناطق هو ضرورة إعادة المجد للأكيتو، يكتب ابراهيم عجول قبل يوم من هذه المناسبة على صفحته في الفيس بوك: «الأول من نيسان..عيد الأكيتو، رأس السنة البابلية الآشورية السريانية السورية عام 6766، هو يوم زيارة عشتار أم الكون للعالم السفلي، كي تسترجع دموزي من أسره هناك.. هو يوم الخصب والانعتاق والانبعاث.. يوم تسليم عشتار صولجانها وتاجها وإسوارتها لآلهة العالم السفلي أرشيجيكال كي تسترد دموزي الحبيب الذي مازال ينتظر منذ تموز حتى الآن.. أكيتو مبارك لبلادي ولشعبي ولأمتي ولتاريخي الذي يعاني اليوم أكثر ما عانى على مر تاريخه منذ سبعين قرناً حتى اليوم.. ليكن الأكيتو لحظة انبثاق سوريانا من جديد نحو الشمس لتعود أمة في جبين الشمس…. أكيتو بريخو».
صفحات التواصل الاجتماعي حملت الكثير من مجريات الاحتفاء والنقاش عن أهمية المناسبة، فقد نشرت صفحات مختصة بالتاريخ أجزاء مطولة من زاوية الكاتب حسن م. يوسف عن المناسبة التي نشرها سابقاً في جريدة الوطن السورية، وتمحورت حول الأكيتو وضرورات الاحتفاء به والأسباب التاريخية التي جعلته يتوارى أو يغيب ليحل مكانه ما يسمونه بعيد الكذب في الأول من نيسان، يقول يوسف: «التقويم السوري يتقدم على التقويم العبري بألف عام، وعلى الفرعوني القديم بخمسمئة عام، وهو مرتبط بأساطير الخصب المنبثقة من أحوال الطبيعة وتعاقب الفصول. يرتبط التقويم السوري بعشتار الربة الأم الأولى منجبة الحياة…هذا العيد أُخذ منا ثلاث مرات، الأولى عند فرض التقويم اليولياني، والثانية عند فرض التقويم القمري، والثالثة عندما أمر شارل التاسع ملك فرنسا قبل أربعمئة وخمسين عاماً باعتماد التقويم الغريغوري، ونقل رأس السنة من أول نيسان إلى أول كانون الثاني. فقد أطلق على رأس السنة السورية اسم April fool أي «أحمق نيسان»، وهي عبارة كانت تطلق على أي شخص ينسى أن رأس السنة قد تم نقله من واحد نيسان إلى 1 كانون الثاني».
يتحدث الدكتور عبد الوهاب أبو صالح مدير خان أسعد باشا التاريخي عن العديد من الأعياد السورية القديمة التي يحتفي بها الناس من دون معرفة أصلها بالضبط، ومثالها عيد الرابع من نيسان وهو ضمن سلسلة الأعياد السورية القديمة، كذلك الأمر بالنسبة لعيد الحصاد حيث اعتاد الفلاحون السوريون حتى اليوم أن يحتفظوا بحزمة من السنابل يعلقونها في المنزل من دون أن يعرف الكثيرون السبب وهي تدل على ضرورة الربط مع إله الحصاد حيث يعمدون إلى فرط السنابل في موسم الزراعة القادم ثم يقومون بخلطه مع البذار الجديد من أجل زراعتهم في الأرض.. يقول أبو صالح: «إن استعادة الأعياد السورية القديمة تبدو ضرورية من الناحية الثقافية والاجتماعية ومن ناحية التأكيد على الهوية، فهناك الكثير من الطقوس السورية ومن العبارات والمناسبات التي يمارسها الناس من دون أن يعرفوا حقيقتها التاريخية، لذلك فإن الاحتفال برأس السنة السورية «الأكيتو» يعد أمراً مهماً يدل على وعي جديد لدى مختلف الشرائح السورية التي تعيد اكتشاف تلك المراحل المجهولة من تاريخها وإعطاءها حقها الصحيح».!
الفنان التشكيلي ابراهيم الحميد رسم الآلهة عشتار في أعمال كثيرة، فهو ابن البيئة الفراتية، وخبر مختلف الأساطير والمناسبات السورية القديمة بشكلها العفوي على الأرض، ثم أخذت الملحمة بعداً مختلفاً في لوحاته عندما حاول أن يحاكي الجمالية السورية القديمة بجماليات معاصرة.. يقول: «الملحمة تظهر لنا الصورة المتكاملة عن المرأة من خلال الصراع الرائع ما بين القوة والجمال، حيث تقدمها الأسطورة بشكل المرأة التي تملك الكثير من خصائص الحياة في التحمل والجمال والمثابرة وهي تتفوق بخصائصها على جلجامش الإله الرجل (جيل أميش) الذي يمثل القوة والطيبة عشتار تلك الحبيبة والأم ذلك الجمال والدهاء استطاعت التغلب على كل المصاعب، تقول الأسطورة إنها كانت تحول كل الرجال الضعفاء إلى حيوانات تزين حظيرتها، إلا جلجامش القوي المسيطر على غرائزه، عشتار تلك الصورة العامة للمرأة التي تملك أعتى قوة في الحياة، وهي الجمال، هي الأرض الخصبة المتصلة تماماً بالأكيتو عيد رأس السنة السورية حيث تسترد حبيبها دموزي من العالم الأسفل ليبدأ الربيع..».
الشاعر العراقي كاظم خنجر وصف إعادة الاحتفاء بعيد رأس السنة البابلية في الشام والعراق على أنه أمر طبيعي كان لابد من أن يحدث منذ زمن طويل، لأن المدَنية في هذه المنطقة لابد من أن تغادر التأثيرات الصحراوية بشكل نهائي عبر الفنون والطقوس والمناسبات التي تنطوي على دلالات كبيرة، يقول: «العودة إلى إحياء طقوس هامة مثل عيد رأس السنة البابلية، يعد عودة إلى المدنيات الحضارية التي امتازت بها الحضارات الأولى في المنطقة كالسومرية والبابلية والكنعانية وأيضاً المصرية.. أعتقد أن تلك العودة إضافة إلى أمور ثقافية كثيرة إلى جانبها يمكن أن تكون حلاً في التخلص من المظاهر الصحراوية التي تتلبس الذهن في منطقتنا وهي ليست منه، بل دخيلة عليه».
يشرح خنجر أن هذا الأمر ينساق ضمن التطور التاريخي الطبيعي للثقافات والتفاعل بين الإنسان والبيئة، لذلك فلا غرابة في أن يقوم المثقفون العراقيون في كثير من الاختصاصات بالتذكير بمناسبة «الأكيتو» والاحتفاء بها، حيث انسجم ذلك مع الاحتفالات في الشام عموماً لأن الامتداد التاريخي واحد، يقول: «ارتباط الإنسان بالمكان هو أمر لا شعوري، فرغم قسوة الحضارة التي يعيشها المرء مقارنة مع الحضارة الأولى التي ارتبطت بالمكان وأنتجته، إلا أن الإنسان لا يمكنه الانفصام عن المجال الحيوي الذي ينتمي إليه رغم التأثيرات الطارئة التي يمكن أن تطرأ.. الفعل المقدم هو شعوري ولا شعوري.. أي بمعنى هو شعوري من ناحية استعادة الحضارة الأولى وتعزيز قيمتها ولا شعوري لأنه مرتبط بالامتداد السلالي والجيني لإنسان هذه المنطقة رغم التقسيمات التي تظهر على الخريطة».
الشاعر العراقي مازن المعموري عاد إلى تاريخ المناسبة كاشفاً دلالاتها الحضارية التي يأتي الاحتفال بها اليوم حاسماً بضرورة القطع مع التأثير الصحراوي على المخيلة والذائقة الفنية في منطقتنا المتمدنة منذ ما قبل التاريخ.. يقول المعموري: «لا غرابة اليوم في أن نجد هذه التوجهات الداعية إلى إعادة إحياء هوياتنا الأولى في بلاد الرافدين والشام, بدءاً بعيد الأكيتو (أكيتو بالسومرية: أكيتي سنونم) (ريش شاتين بالأكادية)، هو عيد رأس السنة لدى الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين) بما أننا في الأصل حضارة مدنية ولسنا حضارة بداوة, بعد أن وجد الناس أن الثقافة الصحراوية هي ثقافة رفض للآخر ومحو لظاهرة الحوار والتمدن, كما اكتشفناها اليوم على يد الجماعات المتطرفة دينياً ومحاولاتهم الحثيثة لإعادة إحياء الإرث الدموي بكل تفاصيله المروعة, وهذا يعني أن الرد الثقافي لاستعادة الهويات البدئية ما هو إلا رد حاسم لإيجاد بديل حضاري يقدس الحياة ويحترم الإنسان بعيداً عن مظاهر البداوة العدوانية التي جاءتنا من الصحراء, وهو ما أؤيده تماماً بصفته حتمية تاريخية لجدل الصراع الشرق أوسطي المعاصر».
ارتفعت وتيرة الاحتفالات هذه السنة وحضر عيد الأكيتو بشكل طبيعي وعفوي في مختلف المناطق الشامية والعراقية، وتساءل الكثيرون: لماذا لا يتحول الاحتفال إلى كرنفالات رسمية وشعبية كبيرة مثلما فعل الصينيون في عيد رأس السنة الصينية عندما أقامت الجالية الصينية احتفالاً كبيراً في بريطانيا؟ ولماذا لا يدخل هذا الكرنفال السوري في بعده الثقافي والجمالي ضمن مناهج التربية والثقافة التي تميل غالباً نحو التفسير الصحراوي للأدب والشعر وتحديد الذائقة الجمالية للأجيال استناداً لحساسية لا تعبر عنّا تماماً؟. هل يمكن إعادة وصل المشروع مع الجماليات العائدة لآلاف السنين قبل الميلاد على أساس أنها جزء من شخصيتنا قبل أن تتلوث الذهنية بكل أنواع الأوبئة والغزوات؟. الأسئلة التي يطرحها الاحتفال بالأكيتو هذه السنة كثيرة، ومن المؤكد أن هناك الكثير من الجدل في الطريق
Views: 0