في وقت يستمر الغموض حول مسألة العشرة آلاف مقاتل الذين يعملون تحت إمرة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) في سوريا،
التي كشف عنها الصحافي جيفري غولدبرغ في مطولته الشهيرة «عقيدة أوباما»، والتي لم يصدر نفي رسمي لها من البيت الأبيض، يتواصل الكشف عن حقائق جديدة حول الدور المزدوج الذي كانت تقوم به الاستخبارات الأميركية في الساحة السورية، خصوصاً لناحية ممارستها سياسة غض الطرف عن وصول قسم كبير من الدعم الذي يفترض أنها كانت تقدمه للفصائل «المعتدلة» المحسوبة عليها، إلى أيدي «جبهة النصرة» الموضوعة على قائمة الإرهاب الأميركية منذ أواخر العام 2012، وكذلك استمرارها في دعم الفصائل بالسلاح، رغم أن قادة بعض هذه الفصائل رأوا ضرورة تقديم فروض الطاعة والولاء لأبي محمد الجولاني في وقت من الأوقات.
والخطير في المعلومات التي سرّبها قادة كبار في بعض الفصائل، على خلفية الحملة الإعلامية التي تُشنّ ضد «جبهة النصرة» منذ حوالي أسبوعين، تأكيد أن معظم الدعم الأميركي، بما فيه السلاح النوعي، كان ينتهي به الأمر في مستودعات «النصرة»، التي كانت المستفيد الأكبر من وراء هذا الدعم.
وقد لوحظ أن التسريبات جاءت من قبل شخصيات محسوبة على تركيا. فهل هي إشارة إلى رغبة الأخيرة في رد الصاع صاعين إلى إدارة الرئيس باراك أوباما بسبب رفضها المشاريع التركية في شمال حلب؟
لا شك أن هناك غايات عدة من وراء تسريب مثل هذه المعلومات في هذا التوقيت؛ يأتي على رأسها حرمان «جبهة النصرة» من ورقة «الدعم الخارجي» التي تلوّح بها في وجه الفصائل بين الحين والآخر للضغط عليها وتهديدها. وأهمية سحب هذه الورقة أنه يأتي في وقت تشتد فيه الخصومة مع «النصرة» على خلفية التطورات السياسية والعسكرية في سوريا، لا سيما صمود الهدنة للأسبوع الثالث على التوالي وعدم فشل محادثات جنيف حتى الآن، وهو ما تعتبره «النصرة» أكبر تهديد يمكن أن تتعرض له، لأنه يعني ببساطة نهاية دورها الذي لا أساس له من دون استمرار القتال.
وجاء تأكيد هذه المعلومات، التي لم تكن خارج التداول من قبل، ولكن كانت تأتي في إطار التكهنات أو الأمور التي لا يمكن التثبت منها، على لسان أحد أكثر الشخصيات قرباً من الاستخبارات التركية، وهو أبو العباس الشامي، واسمه محمد أيمن أبو التوت، الذي لعب دوراً بارزاً في تأسيس «حركة أحرار الشام الإسلامية» وشغل منصب «المفتي العام» لها حتى نهاية العام 2014، وما زال قادراً على التأثير بشرائح واسعة من المسلحين السوريين على اختلاف الفصائل التي ينتمون إليها، بسبب علاقاته الواسعة داخل سوريا وخارجها.
وقال الشامي، في سياق تعليقه على ما ورد في «شهادة حذيفة عزام حول إبادة النصرة لفصائل إدلب»، إن هذه «الشهادة قد تحوي بعض الأخطاء، ولكن هذا لا يغير مما جاء في صلب الموضوع شيئاً»، وهو تأكيد صحة ما ورد في شهادة عزام بالجانب المتعلق بـ «أحرار الشام» على الأقل.
وأكد الشامي، في شهادة غير مسبوقة، أن «جبهة النصرة كانت تأخذ خمسين في المئة مما تأخذه فصائل الجيش الحر من أميركا وغيرها»، مشيراً إلى أن «أميركا كانت تعلم هذا». وتساءل: «ما السر في أن أميركا ترى بعينها قضم النصرة لجماعات تدعمها بالمال والسلاح، وهي ساكتة، وتصر في الوقت نفسه على مواصلة الدعم لفصائل أخرى تنتظر دورها على مشرحة النصرة»؟
وكانت «جبهة النصرة» قد استولت على مستودعات أسلحة تخص بعض الفصائل المدعومة من قبل الولايات المتحدة، فيها أعداد كبيرة من صواريخ «تاو» المضادة للدروع، مثل مستودعات «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم» و «الأنصار» وفصائل أخرى بلغ عددها حوالي 11 فصيلاً، كانت غالبيتها تتمركز في ريف إدلب. وآخر هذه الفصائل هو «الفرقة 13» بقيادة أحمد السعود، الأسبوع الماضي.
وتتطابق معلومات الشامي مع معلومات كان يتحدث بها العديد من النشطاء، ولكن لم يكن هناك ما يدعمها ويثبتها. وقد سبق لـ «السفير» أن علمت من ناشطين أدالبة، خلال العام الماضي، باتهامات موجهة إلى «جبهة النصرة» بأنها لا تسمح لأي فصيل بإدخال الإمدادات إلى مقاره قبل أن يوافق على أن تكون شريكاً له بالنصف في أي مساعدات تأتيه من الخارج، وأهم هذه المساعدات الأسلحة النوعية التي كانت تتحكم بها غرفة عمليات أنطاكيا، المهيمن عليها أميركياً. ومعلوم أن «جبهة النصرة» تسيطر على محافظة إدلب منذ نحو عام.
وهذا يعني أن النسبة التي كانت تدخل إلى مستودعات «جبهة النصرة» من الأسلحة الأميركية تفوق النصف بكثير. لأن نسبة النصف هي ما تتخلى عنه الفصائل من هذه الأسلحة كي تسمح لها «جبهة النصرة» بإدخالها إلى مقارها في إدلب، يضاف إليها ما استولت عليه بقوة السلاح أو بالاحتيال. إذ بالإضافة إلى مهاجمة بعض الفصائل وسرقة أسلحتها، كانت «النصرة» تعمد إلى أسلوب آخر، هو تشكيل فصائل تحت مسمى «الجيش الحر»، والاتفاق مع غرفة عمليات أنطاكيا كي يشملها الدعم، ليصب هذا الدعم في النهاية في مستودعاتها الأصلية، وأبرز هذه الفصائل «السلطان سليم» قبل أن يكشف أمره قبل أشهر عدة.
وكان حذيفة عزام قد أكد في شهادته، التي أثارت موجة من الجدل حولها، أن «جبهة ثوار سوريا» بقيادة جمال معروف كانت تمنح «جبهة النصرة» جزءاً من الأسلحة التي تحصل عليها من واشنطن والغرب ودول الخليج. ومعلوم أن جمال معروف كان ينظر إليه من قبل هؤلاء الداعمين على أنه واسطة عقد «الاعتدال» في سوريا. وكان أبو محمد الأميركي، الذي انشق عن «جيش الخلافة» المبايع لـ «النصرة»، والتحق بـ «داعش» قد أكد، في شهادة مصورة، قبل نحو عامين، أن جمال معروف كان يزود «جبهة النصرة» بالسلاح الذي يدخل إليه عبر معبر أطمة الحدودي مع تركيا.
لكن المفاجأة الكبيرة بخصوص جمال معروف جاءت من قبل المتحدث الرسمي باسم «جبهة النصرة» أبو عمار الشامي الذي أكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن علاقة جمال معروف مع «جبهة النصرة» لم تقتصر على تبادل الدعم وحسب، بل تعدت ذلك إلى وجود «بيعة سرية» في عنق جمال معروف تجاه زعيم «النصرة» أبي محمد الجولاني. وهي معلومة تؤكدها «النصرة» بشكل رسمي بعد أشهر من قضائها على الفصيل الذي كان يقوده معروف.
وبحسب أبي عمار الشامي، فإنه بناء على هذه «البيعة السرية» قامت «جبهة النصرة» بإرسال «الأمير الشرعي» حذيفة الليبي إلى مناطق سيطرته في جبل الزاوية ومعرة النعمان. وقد أكد حذيفة عزام أن الليبي أعطى شهادة جيدة بمعروف من حيث التزامه الديني بشعائر الإسلام.
وبغض النظر عن خلفيات وأسباب هذه البيعة السرية وإمكان أن تدخل في إطار التخادع بين الطرفين، إلا أن استمرار الولايات المتحدة في دعم معروف بعد مبايعته لـ «النصرة» يؤكد مدى عمق دورها المزدوج في توظيف الفصائل واستغلالها والتلاعب بها لتحقيق مصلحتها الخاصة التي لا يقف بوجهها شيء حتى الارتباط مع فصيل إرهابي.
وإذا كانت واشنطن لم تعلم بهذه «البيعة»، وهو بطبيعة الحال دليل قصور في قدرتها على اختيار الحلفاء أو ملاحقة أخبارهم، فهل كانت تجهل أيضاً العلاقة بين جمال معروف وبين أبو عبد العزيز القطري ثاني شخصية تعاقبها أميركا بتهمة الإرهاب بعد أبو ماريا القحطاني؟ وهل كانت تجهل وصول حذيفة الليبي إلى مناطق سيطرة حليفها في ريف إدلب وتوليه مهمة خطبة الجمعة في عدد من مساجدها علناً ومن دون خفاء؟
السفير
Views: 1