إن الفن يبرز كل عنصر من عناصر التجارب في مسرح الحياة، بصورة من الصور، وليس هناك من سبب يمنع التصوير من أن يكون مثل الموسيقا، فناً مجرداً، تماماً،
وتكون عناصر الخط واللون والكتلة فيه، هي كل ما يستولي على الاهتمام، ويمكن أن نقول أيضاً: إن الرسم هو نوع من الشعر، يستهوي الناظر، ويؤثر فيه، وهو حلم أو طيف يماثل في بعض وجوهه، أطياف الكلمات والإيقاع.
والفنان يعمل دائماً في المادة, فالرسام يعمل باللون والخطوط، والنحات بالحجر والرخام، والمصوّر الضوئي بالأضواء والظلال.. وهكذا تتنوع أدوات التعبير ومواده، لكن الهدف الأساس لجميع ضروب الإبداع الفني، إمدادنا دائماً، بمتع جديدة لم تكن في الحسبان، وتالياً، إيجاد أسباب جديدة لنا (بين الحين والآخر) للحياة وحب الحياة.
جورج عشي المولود في (ضهر صفرا) في محافظة طرطوس عام 1940، والحاصل على دبلوم ديكور من المدرسة الدولية في لبنان، والدارس لفن العزف على الكمان، والشاعر المحكي الذي أصدر مجموعتين هما (كلمتين زغار) و(الجوع والحب) والرسام والمصوّر الضوئي: واحد من الباحثين الدائمين عن هذا السر الخفي الذي يربط بين العمارة والموسيقا، والمنحوت والمنقوش، والرسم والشعر، والتصوير الضوئي وهمسات الريشة أو كما قال أحدهم: (إذا كان في الموسيقا الأصيلة شعر وتصوير ومعمار، فإن في المعمار الأصيل، موسيقا وتصويراً وشعراً، كما إن في الشعر الأصيل موسيقا وتصويراً وغناءً. والحقيقة ـكما قال غوته سواء كانت بإزاء قطعة من الرخام، أو بإزاء صدر الحبيبة، فإن المهم أن تعرف كيف ترى بعين سبق لها اللمس، وكيف تلمس بيد تُجيد النظر!.
يقول جورج عشي: إنه منذ صغره وهو يلعب بالأقلام والأوراق، ويمارس هواية التصوير الضوئي. نقل في البداية عن لوحات، ثم توجه بعدها للناس والطبيعة حوله، هذا كله كان من دون دراسة أكاديميّة. وهكذا مرت الأيام وهو يعمل في المجالين: التصوير الضوئي والرسم، رافقت ذلك مطالعة مكثفة ومستمرة لما يصدر عن التصوير والرسم، من كتب تتناول مضمونهما وتقاناتهما المختلفة.
استمرت تجربته في المجالين، وفي وقت واحد، غير أن التصوير الضوئي تحديداً، كان دواءً لنفسه، وحافزاً له لاقتحام الطبيعة والتجول فيها، ما أعاد التوازن الداخلي له، بعد سلسلة من الأزمات الشخصية التي ألمت ببيته ومنها رحيل والده المبكر عن الحياة، أي في الوقت الذي كان فيه في أمس الحاجة لوجوده إلى جانبه.
إلى جانب الرسم والتصوير الضوئي، مارس جورج عشي كتابة الشعر المحكي، ونظم الأغنية، وعزف الموسيقا، من حين إلى آخر، كما مارس الصحافة… جملة هذه الهوايات الفنية، شكلت معبراً آمناً للمستقبل الذي استقر وأزهر أخيراً، وضعاً عائلياً منسجماً وسعيداً، وتالياً فإن هذا الوضع وفر له سبل البحث والتجريب وخوض غمار الإبداع المتلون شكلاً وأداة بكثير من الرويّة والهدوء والتمايز.
ترأس جورج عشي مجلس إدارة فن التصوير الضوئي السوري أكثر من مرة، ونالت أعماله في هذا المجال العديد من الجوائز والميداليات المحليّة والدوليّة، ويُعد أحد أبرز وأهم العاملين في هذا الحقل في سورية اليوم. أما في مجال الرسم والتصوير الزيتي والمائي، فهو حاضر في التشكيل السوري المعاصر، وبشكل لافت، منذ العام 1972 إذ أقام معرضه الفردي الأول في صالة أسرة التبغ والتنباك في دمشق وفي العام نفسه شارك في أول معرض جماعي هو المعرض الثاني لفناني سورية الذي شهدته صالة الشعب للفنون الجميلة في دمشق في شهر تشرين الأول عام 1972. كانت مشاركته في هذا المعرض بلوحة مؤلفة من ثلاث دراسات خطيّة منفذة بالحبر لوجه الشاعر السوري الراحل (محمد الحريري) أما معرضه الفردي الأول فضم مجموعة كبيرة من الرسوم السريعة (كروكيات) تناول فيها وجوهاً معروفة من الوسط الأدبيّ السوري، إضافة إلى عدد قليل من الدراسات لجسم الإنسان الكامل، حقق فيها قدرات تشكيلية لافتة، كما عرض مجموعة تجارب منفذة بالألوان المائية وتجربة وحيدة بالألوان الزيتية، لكن موهبة جورج الحقيقية التي قدمها هذا المعرض، بدت في الرسوم الخطيّة السريعة، إذ تعرفنا إليه من خلالها، وأول مرة، رساماً متمكناً وطموحاً.
في تشرين الثاني من العام 1975 وفي صالة الشعب للفنون الجميلة في دمشق، قدم جورج معرضه الفردي الخامس تحت عنوان (الجولان في قراءة جديدة) ضم تسعاً وثلاثين لوحة مائية من الحجم الصغير، إضافة إلى لوحة زيتية واحدة كبيرة الحجم، في هذه الفترة التي شكلت انطلاقته التشكيلية، جرّب جورج الكثير من الأساليب والتقانات، وتأثر بالعديد من الفنانين القريبين إليه، باحثاً عن طرف الخيط السحري القادر على قيادته إلى نبع هذا اللون من التعبير الذي اقتحمه بثقة وموهبة وأراد أن يجرب حظه فيه، بعد أن صال وجال في حقول الشعر المحكي، ونظم الأغاني، والكتابة الصحفية، والتصوير الضوئي، والموسيقا.
البداية كانت مع الرسم، ثم مع اللوحة الملونة التي خاض غمارها مطالع السبعينيات من القرن الماضي، وما زال يشتغل عليها حتى اليوم، بكثير من الاجتهاد والبحث المتلوّن شكلاً ومضموناً، وسمة البحث والتجريب، في جميع الأساليب والتقانات، هي خصيصة لصيقة بجورج المجتهد، الجريء والمغامر، رأيناها في رسومه ولوحاته، كما رأيناه في صوره الضوئية الدائمة الإضافة والتجديد.
بداية مغامرته اللونية كانت مع فصائل الرماديات التي واجه فيها، أول مرة، الإنسان كهيكليّة كاملة، غير أن هذه البدايات، لم تكن مقنعة إلى الحد الذي جعلنا نقرن (جورج الرسام) بـ (جورج الملوّن).
وتابع جورج عشي مغامرته اللونيّة، بإضافة الأحمر الدافئ إلى صقيع رمادياته، عبر تداخلات ممتازة البناء والتوزيع، لكنه سرعان ما غادرها قبل أن يتمها كما يجب، إلى تجارب جديدة كانت خاضعة بقوة، لتأثيرات تجارب تشكيلية سورية محيطة به.
وبالتدريج بدأ جورج يكوّن لنفسه شخصيّة فنيّة خاصة، تجلت في البداية بالمنظر الطبيعي الخلوي الرومانسي المنبثق من حالة شفيفة لعناق الواقع بالخيال، والرؤية بالرؤى، والبصر بالبصيرة، والحلم بالحقيقة، بعدها عاد للإنسان والوجوه الشعبيّة، ثم لأجواء تحيلنا بقوة إلى روح الأيقونة وبعض خصائصها، ثم عاد فاختزل وجرّد متماهياً بما يشبه الحروفية أو الزخرفة. بعد ذلك قدم تجارب ربط فيها الجسد الأنثوي العاري بالمنظر الطبيعي، ضمن توليفة لونيّة شاعريّة، بدت من خلالها اللوحة كأنها قصيدة مكتوبة بتمتمات ريشة بالغة الحساسية والرومانسيّة، ثم قام باختزال الهيئة المشخصة وتلخيصها إلى مساحات هندسيّة شارفت حدود التجريد، كذلك فعل مع المنظر الطبيعي الخلوي، ثم عاد مرة أخرى إلى الوجوه الشعبية والريفيّة المخزونة في ذاكرته من أيام الطفولة، فقدمها ضمن حالات تعبيريّة عميقة، حملت أحياناً نزعة صوفيّة خائفة وحزينة، وأحياناً أخرى، اتسمت بمسحة كاريكاتيرية طريفة، تنضوي على نوع من السخرية الواضحة، وظفها لإبراز حالة مناقضة، فيها الكثير من الطيبة والسذاجة المتماهية بحزن متوارث يسكن العقل والقلب.
في المنظر الطبيعي الخلوي، قدم جورج عشي نفسه ملوناً ممتازاً، امتلك أسرار اللون الوسيم، وأحسن التعامل معه، أما في الأعمال الأخيرة، فقدم نفسه رساماً وملوناً في آنٍ معاً، ما يؤكد تكامل مقومات التعبير في تجربته التشكيلية وامتلاكه وسيلتي التعبير الأساسيتين فيها: الخط (الرسم) واللون
Views: 1