باحث أكاديمي
nissanyem@yahoo.com
من يقرأ مقال مفرج الدوسري يشعر بأنه أمام فلم هندي ماسخ لا قيمة له ، من النوع الذي كان يعرض في العقد السابع من القرن الماضي في سينما روكسي في بغداد ، ومعلوم لمن عاصر تلك الحقبة من هو جمهور سينما روكسي آنذاك ، فقد كانت تستقبل أعدادا لا تذكر وفي أوقات الظهيرة فقط ، ولم تكن الغاية الحقيقة هي مشاهدة الفيلم ، بل كانت هناك غايات أخرى – لا داعي لذكرها – وذلك ما جعل ذاكرتي تنبض فجأة ، بومضات من تلك الحقبة ، حينما طالعت مقال " ألو الحجاج " للكاتب المذكور ، الذي يستعدي الحجاج بن يوسف الثقفي ، على شعب العراق العظيم ، لحاجة ربما في نفسه ، أو لجهل يتبعه حماقة الاستنجاد بفاسد فاسق ظلوم عطل شرع الله ، واستباح حرماته بغير حق ، فقد وصفه الذهبي في السير 4/ 343 بقوله : كان ظلوما جبارا ناصبيا خبيثا سفاكا للدماء…. وقد سقت من سوء سيرته بالتاريخ الكبير وحصاره لابن الزبير بالكعبة ورميه إياه بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته على العراق والمشرق …. وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله فنسبه لا نحبه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله وله توحيد في الجملة ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء ، وربما لا يعلم الدوسري ؛ بأن الحجاج كان والياً على الحجاز من قبل أن يُولى على العراق ، وقد سقى بطشه وظلمه لأهل الحجاز قبل أن يسقيه لأهل العراق ، ومهما كان موقع الكويت آنذاك ، فهو في الحالتين كان واقعا تحت حكم الحجاج ، حيث لم تكن العلة عند أهل العراق ، بل كانت عند من خطب أهل الكوفة في أول ولايته بقوله : يأهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله، وما هو إلا بقول مريض نفسي ، طغت السادية على شخصيته غير السوية ، التي تحمل الشر أجمعه ، ويبدو لي أن الدوسري ليس جاهلاً فقط بتاريخ الأمة ، بل وبشرعتها أيضاً ، فهو يستبدل أسمال الحجاج المبطنة بالظلام بغلالة من نور – كما يشتهي ويحب – ويصطنع من رماده المأفون قنديلاً يضيء له دربه المظلم ، ويُحيل مجازره إلى دفاع عن النفس ، جاهلاً أو متجاهلاً ، أن الاستعانة بالظالم من أشد المظالم ، فهو يروج لظالم معروف بغيه وظلمه ، بشكل هذيان محموم لشرعنة معاداة العراقيين ، الذين يعترف صراحة باستحالة الرحيل عنهم ، وينزلق إلى هاوية السباب المقذع ، ويغترف من ذاكرته المهلهلة أنكر الأصوات ، ليصفهم بشر الناس وأخسسهم – بوعي أو بدون وعي منه – أن تلك البلاد كانت ومازالت من خير البلاد ، ماضيا وحاضراً ومستقبلاً ، وأن تلك النرجسية لا تشف إلا عن عجز البعض الفاضح أمام العراق ككيان فكري وحضاري وبشرّي جبّار ، لا يصح الاستهانة به، ولا يستطيعون مجاراته بأي حال من الأحوال ، سوى بطريقة الضعفاء ، والشعور بالنقص الشديد تجاه الآخر ، لينساقوا لتلك النوستاليجية التي تنم عن قصور في التعايش مع الحاضر، وانغماس لمطلق أنواع التباكي النوستاليجي ، وترك التفكير في التخطيط لبناء مستقبلهم بالتعايش مع هذا الجار الذي يستحيل الرحيل عن جواره ، والذي يصفوه تارة بغربان الشمال وتارة بشر الناس ، ولكن للأسف، الماضي فقط هو كل ما تستطيع أن تفكر به تلك الجماعات الداعرة كذخيرة لبندقية بالية ليس لها من البنادق سوى الشكل، عفا عليها الزمن، لتستلهم منه معنى وجودها ومبررا لخطابها المعوج ، لكن هل بمقدورها إدارة عقارب الزمن في الاتجاه المعاكس؟ بالتأكيد لا ، فالماضي لا يعود أبداً، وهذا ما تعجز عن قبوله واستيعابه. والمصيبة الكبرى أن "الحجاج " الذي جعل منه الدوسري النموذج والأمل والمنتهى لا يملك أي جمالية أو عظمة أو طهرانية، كما يزعم الدوسري ، فدعونا لا ننقاد لتلك الرغبات المحمومة لبعض من يحاول التسربل برداء المثقفين الكويتيين ، ويجعل من نفسه ممثلاً عنهم ، أما إذا كان هذا هو الخطاب العام للكويتيين ، فتلك مصيبة عصيبة ، يصعب حلها على المدى القصير ، فسوف يثور الجدل وتتعدد الاتجاهات ، لحين إخراس تلك الألسن البلهاء ، التي لا أصل لها ولا دليل ، وستبقى تلك العبارات الجوفاء ، والجعجعات المنفوخة ، تصافح أسماعنا ، إلى أن يعلوها الصدأ ، وستظهر علينا ، من كل فج قبيح ، معادن خسيسة ذي ألسنة معوجة ، وأفواه كريهة ، ستؤذي برائحتها النتنة لفترة طويلة ، أنوف الشرفاء من أبناء العراق ، لحين استعادة العراق عافيته ، فليس عيبا أن نعترف ؛ بأن العراق الآن في عسرة ، ولكن التاريخ سيعيد نفسه مهما كانت الظروف والتحديات ، فنظرية الأداء الفائق للعراقيين ، معروفة للعارفين في مخابئ التأريخ ، فالعراقيون يستخدمون كل إمكانياتهم وطاقاتهم ومواهبهم الكامنة ، وقت الضيق والشدة ، وحب العراق يطفو على أمواج دجلة والفرات ليوحد جميع أطيافهم ومشاربهم ، وعسى أن توحدنا قضية بناء ميناء مبارك الكبير – لاحظ إقران التسمية بلفظ الكبير- فعقدة النقص من التصغير ، تبدو واضحة جلّية ، لمن عانوا طويلاً من تواضع مكانتهم ، إبتداءاً بمصغّر الكويت ( تصغير الكوت وهي القلعة) ، وانتهاءا بالفحيحيل والشويخ والشعيبة والمعيدينات ، ومعظم أسماء مناطقهم ، وليس لهم من ذكر في التاريخ ، سوى ما ذُُكر عن العتوب الذين هاجروا – أو بالأصح طُردوا – من نجد وبعدها من قطر من قبل بني خالد ، وليس بالجديد أن يذكر التاريخ ، المشاكل التي أثاروها مع كل من جاوروهم ، مثل آل مسلم وآل خالد وآل خليفة ، ومشاغباتهم مع القوافل المارّة بطرق التجارة آنذاك ، حيث تنقّل العتوب ، خلال مائة سنة إلى أكثر من خمسة أماكن ، طُردوا من أربعة منها ، لحين استقرارهم في مكانهم الحالي ، مقارنة بالمكانة السامية للعراق ( أوروك ) في كل كتب التأريخ ، منذ بدء التدوين ، لذا ننصح هذا النوع من كتاب الغفلة ، بعدم التطاول مجدداً على العراق العظيم ، والتخلي عن البحث في الوثائق الرمادية ، إن كانوا يعلمون معنى ذلك ، فمن عرف النسبة بين العلة والمعلول ، يجب أن يعلم أن إيذاء العباد وأهانتهم مرده إلى الشعور بعدم الرغبة في إزالة اللبس وكشف المستور ،ومحاولة إثارة الغبار لحجب الحقيقة التي لا يمكن أن تُحجب حتى ولو حاول ألف دوسري ، مثل هذا الدوسري الذي يحاول قلب الأضداد بصورة غير مألوفة ، وان يثير أموراً لا يرغب أحد بسماعها على طريقته السمجة ، فتأريخنا نحن أعرف به منه ، وماضينا كذلك ، وأهل مكة أدرى بشعابها ، فبدلاً من وضع قضية ميناء مبارك " الكبير" كإشكالية أخوية ، تشكل فضاءاً رحباً للحوارات الراقية المفيدة والبناءّة ، نراها تُثار بطريقة غير مهذبة ، أقرب إلى الشجار الصبياني ، المتخم بعبارات التعدي والاستعداء والتهكم والذم والإهانة ، فيا هذا تعلّم ، أصول الحوارات والمقالات ، قبل أن تبدأ بالتسكع بين أروقتها ، وأن تجني على نفسك وتحملها أوزاراً لا قبل لك بها ؛ برمي الآخرين بما ليس فيهم من قبيح الخصال ، ومهما استعنت يا هذا بالحجاج أو بيزيد أو بوحشي أو حتى بأبي جهل ، فسيبقى العراق ذلك الجبل العظيم المُهاب ، الذي لا يؤثر فيه نطح النعاج ، وفي الختام دعني أقتبس قول أحدهم :
أن كل نساء الأرض يلدن أطفالا ولكن نساء العراق ينجبن أبطالاً
Views: 6