خضر سعاده خرّوبي
الملاحظة البديهية التي يمكن الوقوف عندها في ما تمخضت عنه قمة «كامب ديفيد» هي أنها حملت اقتراب زعماء الخليج في مواقفهم من موقف إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، أكثر ممّا حملت اقتراباً في مواقف الأخير من تلك العائدة إلى الزعماء. وهذا إن كان يشي بشيء، فهو يقدم إجابة واضحة، إلى حدّ بعيد حول وجهة المحادثات التي أجريت خلال القمة التاريخية.
والملحوظة الأهم تبقى في استضافة الرئيس أوباما قبل اجتماعه بباقي القادة الخليجيين للثنائي بن نايف وبن سلمان، اللذين ترقيا قبل أسابيع قليلة في «السلم الأميري» إلى «رتبة ملوكية»، وهذا يحدّد، بدوره، على نحو أكبر المعني الأساس بالاجتماع المعلن منذ توصل المجموعة السداسية الدولية وإيران إلى «اتفاق إطار» في ما يتعلق ببرنامجها النووي أوائل نيسان الماضي.
لا شكّ في أنّ السعودية حضّرت لقمة «كامب ديفيد» في شكل توحي من خلاله أنها قوة إقليمية مهابة وجديرة بالتحالف، وذلك من خلال حربها على اليمن وإعلانها المسبق غياب الملك سلمان عن القمة الأميركية ـ الخليجية وتلويحها بـ «الخيار الفرنسي» في قمة الرياض، كجزء من «دبلوماسية الحرد» التي دأبت عليها الرياض في عهد أوباما، إضافة إلى خوضها موجة تحركات وتصريحات تصعيدية في غير ملف إقليمي، وصولاً إلى ما طرحته من سقف طموح لمطالبها من الرئيس الأميركي عادت وتراجعت عنه لاحقاً.
إنّ أقصى ما يمكن لحظه في البيان الختامي للقمة، من «عطاءات أوباما» غير المتحمّس لإعطاء ضمانات أو عقد المعاهدات الدفاعية الجديدة في المنطقة، يتمثل في تحقيق تكامل أنظمة الدفاع الصاروخي وتسريع وتيرة صفقات التسليح المعقودة بين واشنطن والدول الخليجية التي طلبت أسلحة نوعية، رأت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنها صعبة المنال بمقتضى موجبات التحالف الأميركي ـ «الإسرائيلي».
من الواضح أنّ العلاقة الأميركية ـ السعودية تواجه تحديات غير مسبوقة في الأفق، وعلى وقع ما يقال عن «مباراة الأمراء» داخل السعودية التي أعيدت إلى دائرة التساؤلات في الآونة الأخيرة بعد رزمة المراسيم الملكية الأخيرة فيها، وفقاً للمتابعين للشأن الخليجي، فإنّ الثقة بالمستقبل بدأت تهتز، واجتاحت موجة من الإحساس بالخطر الوشيك على الوضع الداخلي عقول طبقة الحكم هناك، سواء من هجوم إرهابي تشنه جماعات متطرفة كـ «داعش» التي أعلنت قبل أشهر تمدّدها إلى الداخل السعودي، وهو ما كشفت عنه فعلاً أجهزة الأمن السعودية أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة وعزّزته تصريحات متزعم التنظيم أبو بكر البغدادي الأخيرة، أو مما تسميه محاولات لزعزعة استقرارها الداخلي بمحركات خارجية، وهو هاجس قادها، إلى إطلاق يدها «النارية» في اتجاه اليمن المجاور منذ أكثر من أربعين يوماً.
صحيح أنّ استجابة الرياض «الحماسية» لهذه الأخطار قد وجدت من يهلل لها في داخل المملكة وخارجها، إلا أنها أغفلت أمراً في غاية الأهمية يتعلق أساساً بأنّ «طبيعة السيطرة» في العالم وعلى فضاءاته الإقليمية تغيرت في أيامنا هذه. كما أنها مؤشر واضح على شعورها بالارتياب وعدم الارتياح حيال «التسامح الاستراتيجي» الذي بات الحليف الأميركي ينظر من خلاله إلى المنطقة، في وقت تتسارع وتيرة إبرام «اتفاق نووي» مع إيران على الطريق الطويل لتأهيلها كشريك من منظور واشنطن، بالتزامن مع عزوف الأخيرة عن «عناقها الخانق» مع الرياض، إفساحاً في المجال للإجابة عن أسئلة كرس صانعو السياسة الأميركيون طاقة ضخمة في مناقشتها، لا سيما تلك المتعلقة بأي من زعماء الشرق الأوسط الذين على الولايات المتحدة أن تدعمهم أو تحاربهم، وأي النظم السياسية هو الأفضل للمملكة الحليفة حيث لا يبدو الأميركيون يحبذون المضي في مسار «الاستثناء الديمقراطي» في الشرق الأوسط، على ضوء مواقف لمدير التخطيط السياسي السابق في وزارة الخارجية الأميركية ريتشارد هاس.
في الولايات المتحدة، ثمة رأي يقول بضرورة إعادة صياغة العلاقة مع «إسرائيل» والسعودية، ولو أدى ذلك إلى احتجاجات وتنازلات من قبلهما حيث فشلت سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة في إرساء واقع سياسي وأمني يضمن استقرار حلفائها على المدى الطويل. ومن الصواب من وجهة النظر تلك، أن تساند واشنطن الطرفين ولكن ليس بالطريقة التي تقوم بها الآن لا سيما وأنه ليس من «الصداقة في شيء السماح لصديق بأن يترنح صوب دمار الذات». فالمثلث القديم الذي هو في واقع الأمر علاقتان ثنائيتان مزدوجتان تجمعان بين واشنطن وتل أبيب، وبين واشنطن والرياض الذي خدم جيداً مصالح الولايات المتحدة في صراعها مع الاتحاد السوفياتي، لم يفضِ إلى شرق أوسط مستقر حيث أنه أتى بنتائج عكسية لما تزعم واشنطن أنها تريده.
وبعبارة أدقّ، ينظر محللون أميركيون إلى احتضان بلادهم للمملكة الدينية باعتباره من أغرب رهانات القرن العشرين، على رغم أهميته في سوقي النفط والسلاح، حيث تعدّ أهم المنتجين للسلعة الاستراتيجية الأولى وأهم المستوردين للثانية. وكما هو معلوم فالسعودية محكومة بمعادلة سلطة مثيرة للجدال ترتكز، كما يقول المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جايمس وولسي إلى «أن يُعطى الوهابيون كلّ مال العالم الذي يمكنهم أن يحلموا به أنهم يحتاجون إليه أو يريدونه لنشر معتقدات طائفتهم على أن يتركوا بيت آل سعود وشأنه».
إنّ ما يجري في المنطقة ليس انسحاباً أميركياً «كامل الأوصاف»، بقدر ما يمكن تشخيصه بأنه ارتخاء في قبضة الولايات المتحدة على التفاعلات السياسية الداخلية والإقليمية فيها، تمهيداً لمرحلة جديدة في النظام الإقليمي.
خلال لقائه الأخير مع كاتب «نيويورك تايمز» توماس فريدمان عقب توقيع اتفاق إيران، قال أوباما إنه سيجري حواراً صعباً مع حلفاء الولايات المتحدة العرب في الخليج، سيعد خلاله بتقديم دعم أميركي قوي ضدّ «الأعداء الخارجيين» لكنه سيقول لهم إنّ عليهم معالجة التحديات السياسية الداخلية، والإقليمية معرباً عن أمله في أن تساهم الأسلحة والتطمينات الأميركية في دفعهم إلى حوار مثمر مع الإيرانيين. ويذهب تقرير، نقلاً عن شبكة «سي أن أن» الأميركية، إلى أنه يتعين على العرب وحكامهم أن ينضجوا وأن يسيطروا على مقدراتهم ومصائرهم٬ فهم لديهم كلّ الموارد اللازمة، لكن لا تزال تنقصهم القيادة والإرادة، مذكراً بأنّ القيادات العربية لطالما أبدت انزعاجاً مما تقوم به واشنطن ومما لا تقوم به.
يربط كثيرون قمة «كامب ديفيد» بالحرب على اليمن ويضعونها في خانة «دفع الثمن» للفشل الجديد لمحور الرياض على الأرض اليمنية بعد فشله في غير ساح وفي غير سلاح. ولعلّ هؤلاء يجدون في المنتجع الشهير، بما يستحوذ عليه من تقليد تآمري لصيق في الذهنية العربية «فينوغراداً» أميركياً يحاكم ويحكم على الخليج.
Views: 9