لم يكن أحد ليعلم أين تقع قرية الشيخ بدر..ولكن قبراً مطلياً باللون الأبيض في أعلى التل يقع فيها حالياً. وبقي لسنوات رابضاً في مكانه ليضم الآن قبور الجنود الذين قضوا في القامشلي. كانت هذه مقبرة للفلاحين وباتت تحتوي الآن جثامين الفوج 54 الرديف للجيش والذين قضوا نحبهم في القامشلي. والذين شاهدوا داعش بأم أعينهم.
على الجهة الشرقية، تشاهد سطوح مباني القرى المصنوعة من الطين والقش. تمكن هؤلاء الجنود من انتزاع مساحات من الأراضي من أيدي أعدائهم الإسلاميين الذين يوصفون بأنهم قساة لا رحمة فيهم ويقاتلون حتى الرمق الأخير. وفي قرية "حياني" وجد الرائد «باسل الشوا» وعشرة من رفاقه أنفسهم محاصرين بالعشرات من داعش في منزل صغير وطلبوا منهم الاستسلام..
قال عقيد متكئ على الأنقاض: قاتلوا حتى آخر طلقة ولم يستسلموا.. واستشهدوا جميعهم.. لا غرابة في هذا، ولكنَّ التوغل جنوب قرية "حاج بدر" حيث توجد قبور كثيرة بيضاء، يدل على أن ما قالته الإدارة الأمريكية عن أن النظام اختار ألا يقاتل داعش هو قول عار عن الصحة .. يقف الحرس على الحواجز. البعض منهم اختطف، و اقتيد أحدهم إلى قرية مجاوزة حيث تم نحره في هذه الحرب الضارية…
ونظراً لحساسية الوضع العسكري والميداني، وكي لا يُكشف النقاب "خطأً" عن أي تحرّك للجيش. لم يتمكن مقاتلو الفرقة 45 من التحدث إلي. لكن بعيداً عن التسجيل أخبروني بأسمائهم كاملة مع رتبهم العسكرية وتحدثوا عن المعارك التي خاضوها خلال الأربعة أشهر الفائتة.
لدى سقوط الموصل، بات "داعش" يستعمل أسلحة أميركية متطورة، كما أطلقوا صواريخ يصل مداها لأربعة عشر كيلومتراً على الرقة. فقرر الجيش دحر "داعش" من الشمال الشرقي قرب تركيا نحو أطراف المدينة. ولكن التنظيم يستولي الآن عليها. ليس بالدبابات، بل على متن السيارات "اليابانية" المفتوحة، كان هذا أيضاً كان تكتيك سقوط الموصل. وقال العقيد: "من المفيد أحياناً أن تستعمل تكتيك عدوك" ..
وبالفعل كان خلفي سبعة رجال متحصنين على ظهور السيارات لدى زيارتي للقامشلي. كانوا يرتدون خوذاً مموهة روسية، ومزودين بصواريخ خارقة للدروع وصلتهم حديثاً يصل مداها لكيلومترين صنعت في روسيا. في أول نقطة لهم على الجبهة كان الجنود ينامون خلف جدار إسمنتي، فيما توجد القاذفات على السطوح وتجوب الدوريات في المنطقة.
ووفقاً لما قاله العقيد: أنهم يجوبون المكان طوال الوقت، وإن رأينا عربة لا تشبه عرباتنا فإننا نطلق النار عليها فوراً لتهرب بعدها ولا تعود مرة أخرى.
وسط الأرض التي تشكل حداً غير مأهول بين الطرفين، ثمّة رجل يقود بشجاعة جراراً زراعياً، لكنَّ الكثير من الأراضي غدت رماداً، حتى بعد أن استعادها الجيش. قالت امرأة أُرغمت على البقاء في منزلها، أنَّ داعش اقتحم المنزل وأخذ ما شاء من طعام وخضروات. كما أحرق أكياساً من الدقيق عندما لم يتمكن من حمله. لكن الكثير من الأهالي عادوا إلى بيوتهم لدى وصول الجيش للمنطقة.
كشف الجيش انَّه أسر ١8 مقاتلاً من داعش في غضون أربع وعشرين ساعة منذ أربعة أشهر.. لكنَّ "داعش" يمكن أن يخترق دفاعاتهم، فقبل وصولي بساعات فجَّر أحدهم نفسه في مكتب عسكري للأكراد، مردياً خمسة أو ثمانية قتلى.
ولم يقلل العقيد والمقدم الذين كانا برفقتي من قوة داعش، أخبراني أنَّه ثمة "منطقة صمت" لا يجب فيها على الجندي استعمال اللاسلكي، بل التنصت على داعش فقط. قال العقيد: نحن لا نفهم اللغات التي يتحدثون بها، وعنما سألته عن أكثر لغة يستعملونها قال لي لا ادري لعلها الصينية، وانفجر ضاحكاً. وعندما سألته عن أعلامهم التي نراها في التلفاز، قال أنه يوجِّه المدفعية صوبها بمجرد رؤيتها . ترى أحياناً أعمدة اللهب تتصاعد من قرى كالدرويش ورقية وجديدة.
شاهدت مصاف نفط تحترق لعلها كانت لداعش، عرضَ عليَّ آثار شظية أصابته. سألته إن كان يخشى هجوماً كاسحاً لهم، فقال: "لقد قاموا بفعل ذلك من قبل، نحن نعلم التكتيك الذي يستخدموه، لن يستطيعوا العبور من خلالنا".
Views: 9