لعلَّ أهمَّ ما يميّز الحدثَ السوريَّ اليوم هو قدرته على الإثارة وخلق المفاجآت، فقد كان ولا يزال حدثاً صادماً ومفاجئاً ويأتي بما هو غير متوقع، ليس بما بدأ به فحسب، وإنما بما نتج وينتج عنه أيضاً من قضايا ومشكلات، في الدَّاخل والخارج، الأمر الذي يجعل من سورية بلداً من الصعب تقدير مسارات الأمور فيه.
وأما مناسبة هذا القول فهي بروزُ نوعٍ من الخِطاب “المتحفّز” و”المتوتر” و”العدائيّ” من جانب بعض فواعل السياسة وبيروقراطية الدولة في سورية ضدَّ “عدوٍّ” أو “خصمٍ” لا يزال افتراضيّاً أو متخيّلاً اسمه الأوليّ –ولا نعلم ما سيكون اسمه اللاحق– هو “العلمانية”، وهذا لا يغفل عن أن بعض “العلمانيين” أو من ينسبون أنفسهم للعلمانية كانت لهم مواقف حادّة نسبيّاً حيالَ ما يعدّونه –وقد يكونون محقّين في ذلك إلى حدٍّ ما– “تغوّلاً” لـ “الدينيّ” في فضاء وبناء المجتمع والدَّولة في سورية. وقد وُصِفَ باحثون ومفكرون “علمانيون” في اجتماعاتٍ ومؤتمراتٍ جامعيّةٍ ووزاريّةٍ ومقالاتٍ حزبيّةٍ ومداخلاتٍ برلمانيّةٍ بأنهم: “كفرة”، و”فاسقون”، و”خونة”، و”تكفيريون”، و”دواعش”، إلخ.
هذا خطاب أقل ما يمكن أن يقال فيه إنّه غير مبرّر وغير مفهوم، في نظر
كثيرين، وقد ينم عن سوء فهم وسوء تقدير أكثر منه عن سوء نية وسوء مقصد، أو
هكذا يبدو عليه الحال حتى الآن. وهذا ينسحب على خطاب بعض العلمانيين أيضاً،
طالما أنَّ المسألة في جانب منها هي مدافعة وسجال أو حتى منافسة وصراع بين
فواعل كانت ولاتزال على جانب واحد من الحرب السورية، ولم يحدث بينها –حتى
الآن– ما يستدعي المواجهة، بل إنَّ من المفترض أن تُقَدِّم للجميع، في
الداخل والخارج، درساً في أصول الحوار والمداولة والتوافق بشأن أي حلول أو
تسويات في كل ما يتعلق بحاضر ومستقبل البلاد.
السؤال هو لماذا برزت هذه الظاهرة، وكيف يمكن النظر إليها، ووفق أي ميزان،
وهل هو صراع حقيقي أم “صراع مواقع” داخل نخبة صنع السياسات في الدولة، وما
هو دور صانع السياسة العليا حياله؟
يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في إحدى “رسائل السجن” إنَّ كلَّ
جماعة اجتماعية “تخلق بنفسها عضويّاً، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها
تجانساً ووعياً بوظيفتها الخاصة ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن أيضاً
في المجال السياسي”.
يمكن القول، بشيء من التعميم، وأرجو أني لا أتسرع في ذلك، إن قراءة ما يجري
في سورية في ضوء مقالة غرامشي، أو العكس، أي قراءة مقالة غرامشي في ضوء ما
يجري في سورية، مع مراعاة الفروق في المكان والزمان، يمكن أن تنطوي على
دلالتين، واحدة إيجابية، وأخرى سلبية.
الإيجابي هو أن ما يتحدث عنه غرامشي لم يحدث في سورية، ما يعني –وهذا مجرد
تقدير قد يصح وقد يخطئ– أنَّ لا جماعة اجتماعية واحدة يمكن تمييزها بعينها
تحكم هذا البلد المشرقي الجميل، إنما الحال أقرب لتشكيل عابر للطبقات
والجماعات والتكوينات والفواعل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والجهوية
والدينية والعرقية وغيرها في سورية.
ذلك “التشكيل” متعدّدٌ ومتنوِّعٌ في رؤيته وتقديره للكثير من الأمور، بما
في ذلك الموقف من: تحديات الحرب في الداخل والخارج، وأولويات البلد في
مرحلة ما بعد الحرب، ولهذا من الصعب تَلَمُّس ملامح سياسات اجتماعية أو
اقتصادية أو ثقافية واضحة المعالم لدى النظام السياسي والدولة؛ ومكابدة
البحث عن اسم وعنوان أو هوية للاقتصاد في سورية معروفة للجميع تقريباً، قبل
الحرب وبعدها، وقد تكون المكابدة أكبر في ما لو نظرنا في قطاعات الثقافة
والاجتماع مثلاً، وثمة بالقطع مداخل تحليل وتفسير مختلفة لما نتحدث بشأنه.
السلبيّ أو غير الجيد، هو أنَّ الجماعة الاجتماعية المذكورة تتضمن فواعل
ثقافية تحاول أن تمنحها –بتعبير غرامشي– “تجانساً ووعياً بوظيفتها الخاصة”،
بدءاً من المسألة الدينية والعلاقة بين الظاهرة الدينية والنظام السياسي
والدولة، ومن غير الواضح لماذا بدأت الأمور هنا، وما المعيار أو الاعتبار
الذي جعلها تعطي الأولوية لهذا الموضوع الذي قد لا يمثل أوَّل اهتمامات
البلاد أو أولى أولوياتها، دون أمور أخرى كثيرة، بل لا حصر لها تقريباً؟
ومنها مثلاً: نمط أو أنماط التسوية المطروحة أو المحتملة، إعادة بناء العقد
الاجتماعي، البناء السياسي والدستوري في سورية ما بعد الحرب، إعادة
الإعمار، التعددية الدينية وتفكيك منطق “الفرقة الناجية”، التدخل الخارجي
والعلاقة مع الخصوم والحلفاء، إعادة بناء الثقة واحتواء الصدوع في معاني
الهوية والمشترك الاجتماعي والثقافي بين السوريين، إلخ.
وهكذا فإنَّ شريحةً من المثقفين، أو فواعل الفكر والثقافة، وبما هي
فواعل اجتماعيّة وسياسيّة، وأحياناً جزء من بيروقراطية الدولة أو خبراء،
يعملون على “تمرير” أو “تعزيز” تفضيلاتهم لدى صانع السياسة والقرار، من دون
اعتبار كبير للفواعل الأخرى، بل وعلى حسابها وبمواجهتها؛ وثمة شريحة قد
تميل للتأثير في السياسات، وربما الدخول في صراع مع شرائح أو مجموعات أخرى
داخل نخبة صنع السياسة، من أجل ترجيح أولويات أو خيارات بعينها. وهذا ما
ظهر بوضوح مثلاً في موضوع قانون الأوقاف.
هذا، وبحسبان أن بيروقراطية الدولة وفواعل السياسة العليا فيها، متعددة
ومركبة، وتقع تحت تأثير إكراهات الحرب، وحالة “اللايقين” تجاه الكثير من
الأمور في سورية، فهذا يعزز التجاذبات والمنافسات للتأثير في الدائرة
العليا والمُرَكَّزَة لصنع السياسات، وهو ما يفسِّر حدوث ما يسميه غرامشي
“حرب مواقع” داخل نخبة صنع السياسات العامة للدولة.
يتعلق الأمر إذاً بفواعل الدِّين والظاهرة الدينيّة، والفواعل المقرّبة
منها أو المؤيدة لها، فيما لا تظهر مؤشرات كثيرة عن الفواعل الأخرى،
المدنية أو العلمانية –طبعاً التسميات هي وفق الخطاب المطروح اليوم– وما
إذا كانت “تمانع” بصورة مباشرة وصريحة أن تَوَسِّع الفواعل الدينية دورها
على حسابها، ولو أن من المرجح وجود شيء من ذلك، وإلا لما كان اتجاه
“الأدينة”، أو بالأحرى “الأسلمة” لدى جانب من بيروقراطية الدولة والحزبيين
يتصرف بنوع من النزق والارتجالية والاندفاع مع ميل متزايد للعنف الرمزيّ
والعدائية تجاه رافضي “أسلمة” المجتمع والدولة، بالطريقة الراهنة على
الأقل، ومن المحتمل أن تنزلق الأمور نحو تبني أنماط أخرى من العنف حيال
خصوم أو أعداء مفترضين أو مُتَوَهَّمين هم “أهل العلمانية”!
من المفترض ألا يكون ثمة عدائية أو استقطاب حاد بين فواعل كانت –كما سبقت
الإشارة– جزءاً من النظام السياسيّ والدولة طوال الحرب وبخاصّة أنَّ الحرب
لم تنتهِ، بل لا تزال تتواصل فصولاً، وقد يكون من المبكر الدخول العلنيّ
والمفتوح في سجالات من هذا النمط، على الأقل بين فواعل الصف الواحد، لكن
يحدث أن تختلف القراءات والتقديرات حول ما يصلح لحاضر ومستقبل البلد وما لا
يصلح لهما، وقد بدأت السجالات والمواجهات خلافاً للمتوقع، كما يحدث في
كثير من الأمور في هذا البلد المشرقي الجميل. وهذا يتطلب المزيد من التدقيق
والتقصي.
وعادة ما تقوم فواعلُ السياسة العليا في سورية بـ “إدارة” المنافسات
والاختلافات و”ضبط” اتجاهات المعنى والقوّة والاستقطاب داخل المجتمع
والدولة، وهذا ما كان طوال سنوات الحرب وحتى اليوم، بميزان دقيق، آخذةً
بالحسبان إكراهات الحرب وتعقيداتها، وبما يضمن للجميع الحد المعقول أو
المقبول من المشاركة فيما يتم المنافسة فيه والصراع عليه، لا أن يجدوا
أنفسهم خارجه.
ويمكن القول بشي من القلق: إنَّ هذا هو المؤمّل، وإلا فالكارثة المعممة!
مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات
Views: 3