في عصر العلاقات العامّة، ليس شرطاً أن تكون شهرة الشخص مقياساً لقيمته،
وهذا ليس في مجال الفنّ أو السياسة فقط، بل يشمل أيضاً مَيادين الثقافة
والفكر. هذا ينطبق على نايف بلّوز الذي يُجمع جميع من مرّ من مُدرّسين في
قسم الفلسفة في جامعة دمشق، وطلّابها، والمهتمّين بالشأن الفلسفي في سورية
على أنّ الدكتور بلّوز هو أقواهم فلسفيّاً، من حيث المعلومات، ومن حيث
القدرة على توليد الأفكار الفلسفيّة. مع هذا لم يكُن الدكتور بلوز أشهرهم،
فهو لا يحبّ الأضواء ولم يشتغل بالتأليف إلّا قليلاً..حتّى أطروحته
للدكتوراه في جامعة همبولدت في برلين الشرقيّة في العام 1968
المُعنونة:”الإسلام ونشأته وفِرقه ومَدارسه” لم يترجمها هو إلى العربيّة،
أو لم يترجمها أحدٌ، بل تُركت حبيسة الأدراج عند أفراد قلائل لا يتجاوزون
أصابع اليد الواحدة، مع أنّ القسم الأكبر من قرّائها يقول إنّها من أفضل
الدراسات عن التراث الإسلامي، بخاصّة ما تناولته عن ابن رشد وابن عربي.
وأمامها لا تقف في الموازاة كُتب الدكاترة: محمّد عابد الجابري، وحسين
مروّة، ومحمّد أركون.
وُلد نايف بلّوز في قرية “قلعة جندل” عند سفوح جبل
الشيخ قرب قطنا في العام 1931. درس الثانويّة في دمشق، ثمّ التحق بقسم
الفلسفة في جامعة دمشق؛ وفي أثناء دراسته الجامعيّة أواسط الخمسينيّات من
القرن الفائت، انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري. اشتغل بالتدريس بعد تخرّجه
من الجامعة، ثمّ التحق بالخدمة العسكريّة الإجباريّة في العام 1958. مع بدء
حملة الاعتقالات على الحزبَين الشيوعيَّين في سورية ومصر، منذ يوم رأس سنة
1959 في دولة الوحدة السوريّة- المصريّة، أُوفِد نايف بلّوز مع حنّا مينة،
من قبل الحزب الشيوعي السوري، إلى الصين، حيث قام بتدريس اللّغة العربيّة
في مدارس الخارجيّة الصينيّة الخاصّة بالدبلوماسيّين المُعَدّين للإيفاد
إلى البلدان العربيّة. بعد انفصال دولة الوحدة في العام 1961، عاد نايف
بلّوز إلى سورية، ثمّ أوفده الحزب الشيوعي إلى ألمانيا الشرقيّة لدراسة
الدكتوراه في الفلسفة. عاد في العام 1969، ليُجابَه بعدم قبوله في التدريس
في قسم الفلسفة في جامعة دمشق لكونه غير بعثي. وقد رفضَ الانتساب إلى حزب
البعث والتخلّي عن عضويّة الحزب الشيوعي من أجل ذلك، بخلاف زميله طيّب
تيزيني الذي عاد معه بالاختصاص نفسه من ألمانيا الشرقيّة، والذي انتسب إلى
حزب البعث، حتّى توسَّط للدكتور بلّوز بعض أعضاء قيادة حزب البعث لدى
الأمين العامّ المُساعد للحزب “صلاح جديد” من أجل اعفاء الدكتور بلّوز من
هذا الشرط لقبوله بالتدريس في قسم الفلسفة.في الميدان الأكاديمي، ألَّف د.
نايف بلّوز كِتاباً عن “عِلم الجمال” ما زال يُدرَّس حتّى الآن في الكثير
من الجامعات العربيّة. كانت محاضراته شفويّة مباشرة من غير أوراق معدّة،
وكان يدرِّس في حياته الأكاديميّة التي استغرقت ثلاثة عقود موادَّ متنوّعة
من المَذاهب الفلسفيّة إلى الفلسفة الإسلاميّة وأيضاً عِلم الجمال، وكان
يحضرها الكثيرون حتّى من خارج طلّاب قسم الفلسفة.
بلّوز المفكِّر الشفويّ بامتياز
هنا،
إذا أردنا الإحاطة بفكر نايف بلّوز، وهو مفكّر بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي
أنّه مُنتِج لأفكارٍ جديدة أو شارح بأفكار جديدة لأفكار قديمة، فيجب
التأكيد هنا على أنّه مفكّر شفويّ أساساً، مثل سقراط، وليس مثل الآخرين
الذين تنقل مؤلّفاتهم أفكارهم. طبعاً عنده نصوص مثل أطروحته للدكتوراه؛
وهناك نصّ كَتبه في عدد شهر شباط (فبراير) 1979 من مجلّة “دراسات عربيّة”
تناولَ فيه كِتاب حسين مروّة الصادر قبل شهرَين وقتها بعنوان:”وقفة مع
كِتاب النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الاسلاميّة”، أتبعها بمحاضرة
في بيروت في منتدى ثقافي في الجامعة الأميركيّة عن الموضوع نفسه بعد شهرَين
على نشْر المقال. أفكار نايف بلّوز الشفويّة كانت في داخل الحزب الشيوعي
السوري، حيث منذ وجوده في منظّمة ألمانيا الشرقيّة للحزب في الستينيّات من
القرن الفائت، كان رأي نايف بلّوز أنّ هناك طبعات متعدّدة من الماركسيّة
تأتي من تلاقُح المنهج الماركسي مع الخصوصيّة المحليّة في كلّ بلد،
وبالتالي لا يوجد ماركسيّة واحدة، بل ماركسيّات سوفياتيّة وصينيّة
وإيطاليّة، والكلّ ماركسيّون، ولكنّ سياسات كلّ حزب تختلف عن الحزب الآخر
وفقاً للزمان والمكان. منذ العام 1965 دعا نايف بلّوز إلى تكوين “ماركسيّة
عربيّة”، وهذه لم يسبقه عليها أحد، بل لحقه آخرون في ذلك مثل إلياس مرقص
وياسين الحافظ . وبسبب ذلك تمّ تهديده بقطع إيفاده الدراسي من قبل قيادة
الحزب الشيوعي السوري، ولكنّه لم يَرتدع ولم يُهادِن. في انشقاق 3
نيسان(إبريل) من العام 1972 بين جناحَي الحزب الشيوعي السوري (جناح المَكتب
السياسي من جهة، وجناح الأمين العامّ خالد بكداش المدعوم من السوفيات من
جهة أخرى)، كان د. بلّوز بمثابة المُستشار الفكري لجناح المكتب السياسي.
في
حالاتٍ عديدة، كان هناك لمعات فكريّة، كانت أقرب إلى التنبّؤ الفكري،
يُطلقها الدكتور نايف بلّوز. وما زال صاحب هذه السطور يذكر ورقة كَتبها
الدكتور بلّوز، في ربيع العام 1978 في نقد نصّ “موضوعات المؤتمر الخامس
للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي”.
كان رأي الدكتور بأنّ تبنّي
حزبٍ شيوعيّ لمقولة “الديموقراطيّة”، من دون تلقيحها فكريّاً مع
الماركسيّة، مع الاقتصار على تناولها كشِعار سياسي أو كهدف سياسي، يُمكن أن
تقود الماركسيّين إلى اللّيبراليّة بعيداً عن الماركسيّة.
كانت تلك الورقة شارِحاً تنبّؤيّاً لحالات مثل ميخائيل غورباتشوف 1987-1991 والحزب الشيوعي الإيطالي1991 ورياض الترك في سورية 2005.
هناك
حالة ثانية: في أحد صباحات شهر شباط(فبراير) من العام 1979، جاء إلياس
مرقص إلى مقهى البستان في اللّاذقيّة حاملاً مجلّة “دراسات عربيّة”، وقام
برمي المجلّة على الطاولة التي يجلس عليها كاتِب هذه السطور، قائلاً: ” في
عشرين صفحة قام نايف بلّوز بتحطيمٍ معرفيّ لكِتاب من ألف صفحة كَتبه حسين
مروّة”. يعترف هنا، كاتِب هذه السطور، بأنّ تلك المقالة قد أحدثت عنده
زلزالاً فكريّاً قاد إلى انقلابٍ فكري. كان كلّ الماركسيّين العرب، منذ
ترجمة كِتاب روجيه غارودي: “ماركسيّة القرن العشرين” في العام 1967، يؤمنون
بأنّ هناك “تراثاً اشتراكيّاً” في التاريخ الإسلامي يُمكن استمداده من علي
بن أبي طالب وأبي ذرّ الغفاري وحركة القرامطة. في السبعينيّات من القرن
الماضي، ظهرَ كِتاب أحمد عبّاس صالح: “اليمين واليسار في الإسلام”، ثمّ في
أواخر العام 1978 ظهر كِتاب حسين مروّة: “النزعات الماديّة في الفلسفة
العربيّة الإسلاميّة”، لينسج على الفكرة نفسها التي قدَّمها روجيه غارودي،
ولو أنّ حسين مروّة قد استخدمَ فكرة “حزبيّة الفلسفة” التي لم يقلها كارل
ماركس بل فريدريك إنجلز، بعد وفاة ماركس في العام 1883، وتبعه لينين
وستالين في ذلك، حول انقسام التاريخ الفلسفي إلى حزبَين: مادّي ومثالي، وهي
فكرة أراد تطبيقها على الفلسفة العربيّة الإسلاميّة. كان أدونيس في
“الثابت والمتحوّل” قد تلاقى من منطلقات غير ماركسيّة مع هؤلاء. رجع نايف
بلّوز، وبأدوات معرفيّة أعمق من التي امتلكها حسين مروّة في ناحيتَي
الماركسيّة والتراث الفلسفي العربي الإسلامي، ليفحص الموضوع ويقول إنّ
التاريخ الإسلامي وتاريخ الفلسفة العربيّة الإسلاميّة لا تفسَّر كما فسّرها
حسين مروّة، بل يجب الاقتداء بماركس الذي قال إنّ التاريخ لايفسَّر
بـ”الحقّ” و”العدالة” و”العقل”، بل بحركيّة قوى الإنتاج المولِّدة لعلاقات
اقتصاديّة- اجتماعيّة جديدة؛ وإنّ الأفكار والثقافات والسياسات تُقاس
تقدميّتها، ليس بمقولات “الحق”و”العدالة” و”العقل”، بل بمدى تطابقها مع تلك
الحركيّة.
كان مقال الدكتور بلّوز في اتّجاهٍ مُعاكِس لكلّ الماركسيّين
العرب الذين كانوا في حال ترحيب تهليلي بوصول الخميني إلى السلطة في طهران
يوم 11 شباط ( فبراير) 1979، انطلاقاً من أفكار مثل التي طرحها روجيه
غارودي وأحمد عبّاس صالح وحسين مروّة. وقد شمل هذا أشخاصاً مثل محمود أمين
العالِم وأنور عبد الملك وحازم صاغيّة وأحزاباً مثل (الحزب الشيوعي السوري-
المكتب السياسي) الذي رحَّب بالخميني والثورة الإيرانيّة في مقال تحت
عنوان: “وجاءت القارعة..” في العدد 206 من جريدته المركزيّة “نضال الشعب”
في آذار(مارس) 1979، تحت مقولات قال بها واستند إليها كلّ هؤلاء من أجل ”
تلاقُح الماركسيّة العربيّة مع الإسلام الثوري في طهران”.
توفّي الدكتور
نايف بلّوز غرقاً عند شاطىء أحد مسابح مدينة اللّاذقيّة في العام 1998،
وهي “ميتة بحريّة” لم يكُن يتوقّعها أحدٌ له على الإطلاق.
محمد سيد رصاص
نشرة “أفق”- مؤسسة الفكر العربي بيروت.العدد 94-1061
Views: 5