حسين الامين
إلى ذروة ما دون الحرب، وصل التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد «الوجود» الإيراني في سوريا. مطلع الأسبوع الفائت، شكّلت جولتا القصف الإسرائيلي العنيف على دمشق، وجنوبها، قفزة متقدّمة في عمق الصراع الذي بدأ يأخذ شكلاً أكثر حدّة.
وبعدما كانت "إسرائيل" تتبع شكلاً «هجيناً» في مواجهتها حلفاء دمشق، داخل الأراضي السورية، عبر توجيه ضربات من دون تلقّي ردود، يتّجه شكل المواجهة اليوم ليصبح تقليديّاً أكثر، عبر جولات من القصف المتبادل، تُثبَّت فيها قواعد اشتباك جديدة، من دون إهمال إمكانية انزلاق الأمور إلى ما هو أكثر من ذلك.
يرتبط التصعيد الأخير في سوريا بعوامل سياسية أكثر منها عوامل ميدانية أو تقنيّة. ومن أهمها القرار الذي اتّخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أواخر العام المنصرم، بسحب القوات الأميركية من منطقة شرق الفرات. القرار الأميركي المفاجئ، أحدث اهتزازاً حقيقياً في توزّع قوى الأطراف المنخرطة في الصراع في سوريا، ولعلّ أبرز من تحسّس الخطر الذي ينطوي عليه القرار الأميركي، هو قيادة العدو. إذ أن انسحاب القوات الأميركية من شأنه أن يعزز نفوذ الإيرانيين وانتشارهم في سوريا. لذلك، خرج رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو متوعّداً بأن «إسرائيل ستصعّد عملياتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأميركية»، ليبدأ بعدها سلسلة لقاءات مع المسؤولين في واشنطن لبحث التطور المتمثّل بقرار ترامب.
في اليوم الأول من العام الجاري، التقى نتنياهو في البرازيل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. بعد اللقاء، قال الأخير، معلّقاً على قرار ترامب، إنه «لا يغيّر بأيّ حال أيَّ شيء تفعله هذه الإدارة (الأميركية) إلى جانب إسرائيل». وأضاف: «جهودنا لمواجهة العدوان الإيراني والتزامنا تجاه استقرار الشرق الأوسط وحماية "إسرائيل هي نفسها كما كانت عليه قبل اتخاذ هذا القرار». أما نتنياهو، فأكد أن إسرائيل «تقدّر بشدة الدعم القوي… الواضح الذي قدمه بومبيو لجهود (إسرائيل) في الدفاع عن النفس».
بعد ذلك بأيام، حطّ مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في تل أبيب، حاملاً تطمينات حول «ضمان أمن إسرائيل». الملف الأساسي الذي بحثه بولتون مع نتنياهو وقادة الكيان، هو ما تسمّيه إسرائيل «التمركز الإيراني» في سوريا وسبل مواجهته، وهو ما لقي موافقة المسؤول الأميركي. وهذا ما برز في تصريحاته وفي التسريبات التي واكبت الزيارة. إذ أشار بعد لقائه نتنياهو إلى أنه «قد لا يتم سحب جميع القوّات الأميركية (…) الانسحاب سيتم من شمال سوريا، وقد تبقى بعض القوات في الجنوب في قاعدة التنف ضمن جهود مواجهة الوجود الإيراني».
عمد نتنياهو، إذاً، إلى استغلال القرار الأميركي وتجييره لمصلحة "إسرائيل"، ولمصلحته شخصياً – وهو المقبل على انتخابات قريبة، فضلاً عن أنه مأزوم قضائياً – ولكسب المزيد من الدعم الأميركي والدولي لجهود تل أبيب العسكرية في سوريا في إطار مواجهة إيران وحلفائها. ويرى مراقبون أن التعويض الأميركي على تل أبيب، بعد قرار ترامب، كان منحها سقفاً أعلى لعمليّاتها ضد حلفاء دمشق في سوريا. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار جولة القصف العنيف الأخيرة، بمثابة «رسالة بالنار» أرادها رئيس حكومة العدو أن تكون صاخبة، وتعبّر عن عدم تأثّر إسرائيل بالانسحاب الأميركي، وأنها قادرة على التعامل – وحدها – بقوة مع تهديدات حلفاء دمشق.
عملية قصف «واسعة»
بدأ الأمر يوم العشرين من الشهر الماضي، عندما أطلقت طائرات إسرائيلية صواريخها باتجاه أهداف جنوبي العاصمة دمشق، فتصدّت لها منظومات الدفاع الجوي السوري وأسقطتها جميعاً. أعلن جيش العدو بعد وقت قصير عن إسقاط منظومة «القبة الحديدية»، صاروخ أرض – أرض انطلق من المنطقة الجنوبية في سوريا، وتحديداً من الجزء الشمالي من محافظة القنيطرة الحدودية، نحو الأراضي المحتلّة في منطقة جبل الشيخ. عند الواحدة وعشر دقائق بعد منتصف تلك الليلة شنّ العدو جولة أولى من القصف الجوي بالصواريخ على أربعة مبانٍ صغيرة ادّعى أنها «مخازن إيرانية»، قرب المبنى الزجاجي في الناحية الجنوبية من حرم مطار دمشق الدولي. فيما كانت طائرات معادية تهاجم في الوقت نفسه موقعاً عسكرياً في الديماس جنوبي دمشق، قال العدو إنه معسكر لقوات إيرانية. كما أعلن أنه «يقوم بضرب أهداف تابعة لفيلق القدس الإيراني داخل الأراضي السورية»، وحذّر سوريا من محاولة استهداف الأراضي الإسرائيلية أو قواتة.
في الجولة الأولى، حاولت دفاعات الجيش السوري التصدّي للصواريخ الإسرائيلية، لكنّها لم تنجح بذلك «نسبياً». هنا، يقول مصدر عسكري سوري رفيع لـ«الأخبار»، «كان العدو يبحث عن ذريعة ـــ على غير العادة ـــ لضرب مواقع الدفاع الجوي السوري لأنه كان ينوي توجيه ضربة مباشرة وواسعة، لذا أرسل تحذيراً علنياً، ولمّا حاولت الدفاعات الجوية التصدي لصواريخه، تصرّف على هذا الأساس مباشرة».
أراد نتنياهو إيصال رسالة «نارية» لدمشق وحلفائها بعد قرار الانسحاب
بعد وقت قصير، عادت الطائرات الإسرائيلية، مصحوبة بصواريخ موجّهة، وطائرات مسيرة معدّة للتفجير، وبدأت جولة ثانية من الاستهداف للدفاعات الجوية السورية في المنطقة الجنوبية، وصولاً إلى العاصمة دمشق. بداية، استهدفت الصواريخ راداراً سورياً من طراز «JY – 27»، جنوب غرب مطار دمشق يتبع لـ«اللواء 29 دفاع جوي» الموكل حماية المطار. واستهدفت طائرة مسيرة معدّة للتفجير آلية دفاع جوي من طراز «بانتسير» الروسية (SA-22) جنوب المطار العسكري، تابعة للواء نفسه. وجنوباً، استهدفت صواريخ موجهة، أُطلق بعضها من الأراضي المحتلة، قواعد ومواقع الدفاع الجوي المنتشرة في شرق درعا وصولاً إلى السويداء، وهي تتبع لـ«اللواء 38 دفاع جوي». واستُهدفت قاعدة الدفاع الجوي في مدينة إزرع في ريف درعا الشمالي الشرقي. ورادارات في مطار الثعلة العسكري، وفي قرية الدور، وراداران في تل القينة وتل الصحن في ريف السويداء. «العملية كانت واسعة، ولم تكن استهدافاً موضعياً، ثمة لائحة أهداف كانت معدّة مسبقاً، ومدروسة بدقّة، ولم تكن تعبّر عن ردة فعل. كان هجوماً جوياً واسعاً»، يعلّق المصدر العسكري السوري.
شكّل الهجوم الإسرائيلي الأخير نقلة نوعية في ما يخصّ طبيعة الأهداف وانتشارها، وحتى نوعية الصواريخ المستعملة. هذا التطور في طبيعة الصراع وشكله، فرض على دمشق وحلفائها النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، واعتباره «نقطة تحوّل لا يمكن تجاوزها ولا تندرج في سياق ما سبقها من جولات»، حسب ما علّق مصدر عسكري من حلفاء دمشق. إذ عمدت إسرائيل إلى محاولة الالتفاف على قواعد الاشتباك التي رسمتها حادثة استهداف مطار «تي فور (T4)» العسكري في ريف حمص الجنوبي، في نيسان العام الماضي، وأدّت إلى مقتل عدد من المستشارين العسكريين الإيرانيين، الأمر الذي استدعى ردّاً صاروخياً من «محور المقاومة» ضد مواقع الحافة الأمامية الإسرائيلية في الجولان المحتل. وهو ما أرسى في حينه قواعد اشتباك جديدة.
الجولة الأخيرة، هدفت إلى محاولة تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وتنفيذها بشكل لا يُحرج دمشق وحلفاءها إلى حدّ يستجلب الرد. لكن ما حصل في الجولة الأخيرة استدعى رؤية مختلفة عند محور دمشق وإيران وحلفائهما. الجديد اليوم، هو أن دمشق، تدرس خيارات تصعيدية أيضاً، في حال تكرر العدوان بهذا الشكل. وتؤكّد مصادر رفيعة في الجيش السوري أن «العدوان الأخير، شكّل دافعاً قوياً، أقلّه لدى القادة العسكريين، لإعادة بحث الخيارات التصعيدية التي يمكن الخوض فيها لمواجهة التصعيد الإسرائيلي، بحال اضطررنا لذلك، بالتعاون والتنسيق مع حلفائنا».
مع التوجه الذي يظهر أنه بدأ يطغى على خيارات «محور المقاومة»، وهو العمل على تثبيت قواعد اشتباك جديدة عبر الرد على الاعتداءات في مسار تصعيديّ، يتراجع هامش الحرية الإسرائيلية في التحرك ضد أهداف في سوريا، وبالتالي تضيق الخيارات أمام جيش العدو، إلا إذا كان ينوي الخوض في جولات غير محسومة النتائج، وهو ما ليس متوقعاً، إلا إذا أخطأ التقدير. مع هذا، فإن الخيارات الإسرائيلية لا تقتصر على العسكرية الصاخبة. إذ تشير تقارير أمنية خاصة الى أن في إسرائيل من يخطط لـ«تنفيذ عمليات اغتيال لمستشارين عسكريين وضباط إيرانيين على الأراضي السورية، سواء عبر القصف بالطائرات، أو عبر عمليات أمنية دقيقة ونظيفة»، حسب مصادر مطلعة. المصادر نفسها تؤكد لـ«الأخبار» أن لدى دمشق وحلفائها، في المقابل، من «يعدّ خططاً لمواجهة سيناريوات كهذه، في المرحلة المقبلة». وتتحدث عن أن «روسيا تعمل على مبادرة لتقديم ما يشبه الوساطة، لخفض التوتر، والحؤول دون تطور الأمور الى مواجهة عسكرية. وهي لمست استعداداً واضحاً لدى دمشق وحلفائها للتصعيد، وقد أبلغت تل أبيب بالأمر». وهنا، تشير المعلومات الى «تغيّر يحصل في خريطة انتشار المستشارين والضباط الإيرانيين في سوريا، تمهيداً لأمر ما. قد يكون هذا الأمر في سبيل تهدئة ما، ولكنه قد يكون خطوة استباقية لعمل قادم أيضاً».
شمخاني مستقبلاً المعلم: سنردّ بحسم
التقى وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، أمس، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، ومسؤولين آخرين خلال زيارته طهران. ونقلت وكالة «إرنا» عن شمخاني قوله، خلال لقائه المعلم، إن «استمرار اعتداء الكيان الصهيوني على الأراضي السورية، وإجراءاته ضد الجيش وقوات المقاومة، مرفوض». وأضاف أنه «في حال استمرار هذه الإجراءات، فسيجري تفعيل بعض التدابير المخطط لها مسبقاً لردع الكيان الصهيوني، وردّه بصورة حاسمة». كذلك، نقلت وكالة «تسنيم» الإيرانية عن المعلم قوله إن المستشارين العسكريين الإيرانيين يوجدون في سوريا بدعوة من الحكومة، وإن دمشق «تعدّ نفسها مكلّفة الحفاظ على أمن القوات الإيرانية الموجودة على الأرض السورية».
الاخبار اللبنانية
Views: 12