مع نصوص كافكا يبدو الحديث عن الراهنية نافلاً، بلا معنى، فالأمر يتجاوز أن تكون آثار الكاتب التشيكي (الألماني؟ النمساوي؟) لا تزال مقروءة. إنها، أكثر من ذلك، تثبت يوماً بعد يوم، انتماءها إلى الكلاسيكيات العظيمة، فتغدو منجماً لا ينضب للتفسيرات والتأويلات المتجددة.. أفكار طازجة أبداً، ورؤى بطعم النبوءة، وصور عن العالم مفزعة وصادمة، لكن أمينة ولا ينفك الواقع يصادق عليها مراراً وتكراراً..
بل، وبقدر قليل من المبالغة، نستطيع القول إننا اليوم، ونحن نعيش في ظل عالم يتهاوى تحت مطارق مجنونة، نبدو وكأننا مجرد شخوص في كوابيس كافكا التي حلمها منذ قرن.
ألا نشبه أهالي القرية الذين يعيشون تحت سلطة أسياد «القلعة»، ووفق قوانينهم وتعليماتهم، دون أن يتاح لأي منهم الوصول إلى هذه القلعة أو رؤيتها عن كثب أو حتى معرفة شيء يقيني عنها وعن أسيادها؟ ألا يعيش كثير منا في خضم «محاكمة» عبثية طويلة، بلا قانون ولا قضاة ولا ذنب محدد، وبمصير محتوم: حكم إعدام مبرم سلفاً؟. هل ما زالت حكاية «المسخ»، حيث يستفيق غريغور سامسا وقد تحول إلى حشرة ضخمة، مجرد حكاية خيالية؟ أليس هذا مصير الآلاف الذين يسحقون بلا رحمة كحشرات تحت آلات الحرب الجهنمية؟ ألا يكرر الآلاف يومياً ما فعله بطل قصة «الحكم»، فينفذون بأيديهم حكم السلطة الباطشة فيهم ويغرقون أنفسهم في البحر؟..
لكن رغم هذا الحضور الطاغي لكوابيس كافكا ورؤاه الغرائبية، فإن هناك من يرى أن قراء العربية لم يتعرفوا بعد على كافكا.. لم يعرفوا نصوصه معرفة جيدة، وأن كل ما ترجم هو مجرد نسخ ارتجالية عن كافكا لم يوجد أبداً.. كافكا جرى اختزاله وتبسيطه بل وتشويه كلماته، لا سيما أن معظم الترجمات المتناثرة لأعماله جاءت عبر لغات أخرى وسيطة، وليس من اللغة الألمانية التي كتبت هذه الأعمال بها أصلاً.
المترجم والباحث في الأدب الألماني، ابراهيم وطفي، لا يذهب إلى هذا الحد في نقد ترجمات كافكا إلى العربية، غير أن عمله الضخم «فرانز كافكا ـ الآثار الكاملة مع تفسيراتها» يظهر على أنه محاولة في التأسيس لحضور جديد لكافكا في المكتبة العربية، حضور أكثر دقة وعمقاً وأكثر قرباً من الأصل..
يقول وطفي: «في مطلع عام 1963 انتقلت من سوريا إلى أوروبا. كان معي نسخة عربية من المسخ.. في دراستي للأدب الألماني الحديث، في المانيا، كان كافكا أحد الكتاب الذين ركزت على دراسة آثارهم. يقال إن من يهتم بكافكا لا يعود في مقدوره أن يتركه. فمنذ ذلك الحين لم تنقطع علاقتي بكافكا، وما زالت كتبه تأسرني. ومنذ ثلاثين عاماً وأنا أتابع باستمرار الدراسات عنه في الكتب والمجلات الأدبية والصفحات الثقافية في الصحف الألمانية اليومية. وقد قرأت مجموع آثار كافكا، وقرأت عن أدب كافكا ما يقرب من مئة كتاب وعدة مئات من المقالات. ولا يمر أسبوع دون أن أقرأ فيه مقالاً جديداً عن كافكا..».
يتألف مشروع وطفي من خمسة مجلدات (بين أيدينا أربعة منها). يحوي المجلد الأول (جاء تحت عنوان الأسرة) القصص الطويلة: «الحكم» و«الوقاد» و«الانمساخ» (اقتراح وطفي كبديل للمسخ) و«رسالة إلى الوالد». أما المجلد الثاني (وعنوانه الذات) فقد ضم رواية «المحاكمة»، فيما ضم المجلد الثالث (عنوانه المجتمع الصناعي) رواية «المفقود»، والرابع (الكون البشري) ضم رواية «القلعة»، ومن المفترض أن يضم المجلد الخامس الأعمال القصصية.
وإثر كل قصة وكل رواية من هذه، ثمة العديد من الإشارات والتوضيحات والدراسات النقدية المكتوبة بأقلام نقاد ومختصين مشهورين في أدب كافكا، إضافة إلى الكثير من الوثائق والجداول الزمنية والشهادات: يوميات كافكا ومراسلاته وآراء أصدقائه ومعاصريه، وأيضاً عروض موسعة لظروفه الأسرية وعلاقاته العاطفية ومختلف جوانب حياته الشخصية والأدبية، وقصة ولادة كل عمل من أعماله الإبداعية، والطريق الذي سلكه هذا العمل وصولاً إلى القراء.. الشيء الذي جعل هذه المجلدات أشبه بموسوعة متكاملة.
يعزز كتاب «الآثار الكاملة» انطباعاً شائعاً وهو أن قصة كتب فرانز كافكا لا تقل متعة وتشويقاً عن القصص التي تحويها هذه الكتب، فقد صدر له في حياته بضع من القصص الطويلة وعدد من القصص القصيرة فقط، أما بقية آثاره فقد صدرت بعد وفاته، وكان قد ترك مخطوطات كتبه لدى صديقه ماكس برود وأوصاه بحرقها، غير أن الصديق لم ينفذ الوصية لحسن الحظ. وحكاية برود هذا مع المخطوطات هي مغامرة شيقة تذكّر بروايات المغامرات الشهيرة التي تدور حول مخطوطات قديمة، وقد جاءت لتضيف غرابة لعالم كافكا الغريب أصلاً..
لقد كان برود أميناً على أوراق صديقه الراحل لكنه لم يكن أميناً بالقدر نفسه على محتواها، فقد حرف بعض السطور وبعض العناوين، والأخطر هو أنه أحاط بعض النصوص بشروحات وتفسيرات لاهوتية دينية لم يطل الأمر بالدارسين حتى اكتشفوا أنها لا تمت بصلة إلى مقاصد كافكا وأفكاره، بل هي مقاصد وأفكار برود نفسه..
عندما توفي كافكا في العام 1924 فإن قلائل هم الذين كانوا يعرفونه ككاتب، وأقل منهم هم الذين كانوا يتوقعون أنه سيغدو واحداً من أشهر الكتاب في العالم.
كيف انتقلت كتبه من أدراج التجاهل إلى مصاف الآثار العظيمة، لتقف بجانب كتب دانتي وشكسبير..؟ يبقى هذا مثار تحليلات وتفسيرات لا تنتهي، بعضها لا يقل كافكاوية عن قصص كافكا نفسها.
وليس أقل من ذلك معارك «النسب» التي ثارت حول أعمال كافكا، فإلى جانب قراءة ماكس برود الدينية، كان هناك قراءة سارتر وكامو التي جعلت من كافكا واحداً من رواد الوجودية، كما كان هناك قراءة أخرى أنطقت رواياته وقصصه مقولات ماركسية، إضافة إلى قراءات الحداثيين وما بعد الحداثيين وأنصار التحليل النفسي..
وإذا كانت هذه القراءات المتباينة لم تصل إلى إجابات حاسمة فإنها زادت في توهج كافكا وعززت أسطورته.
يقول الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس: «أعتقد أن فرانز كافكا هو الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن نستطيع أن نفهم هذا القرن من دون فوكنر، من دون بروست، من دون جويس، لكن لا نستطيع أن نفهمه من دون كافكا».
وكتب الفيلسوف أدورنو: «نصوص كافكا تجعل منه مكتب استعلامات عن الوضع الأبدي للإنسان».
إلى جانب تقدير الجهد الهائل المبذول في عمل ابراهيم وطفي، فثمة تحفظ مشروع لا يقلل من هذا التقدير، فربما نجح وطفي في استثمار معرفته الجيدة بالألمانية ليضبط بدقة متناهية المفردات والإشارات والإحالات الكافكاوية، ولكن أسلوب الصياغة بالعربية افتقد للأسف، وفي مواضع كثيرة، إلى الرشاقة والسلاسة اللتين تضمنان متعة القراءة
Views: 4