يعتقد
مقرّبون من الرئيس سعد الحريري أنّ من حق بعض المسؤولين أن ينقزوا من
لقاءاته دون مواقفه في زيارته الأخيرة لواشنطن. فمَن سجّلوا مثل هذا الشعور
في السرّ والعلن يتعرضون لحصار ديبلوماسي أميركي منذ فترة. وإنّ احتمال
تطوّرها الى عقوبات لم يعد وهماً. وعليه، فما الذي يبرّر هذا الشعور؟ وهل
هناك ما سيعزّزه أم يقلّصه؟
على خلفية اعتبارها زيارة عائلية لم يكن
معظم اللبنانيين ينتظرون أن تكتسب زيارة الرئيس سعد الحريري الأخيرة
لواشنطن الأهمية التي اكتسبتها. فقد أدّى ضمور الحركة الداخلية في لبنان
والشلل الذي اصاب المؤسسات الدستورية في البلاد في عطلتي الأضحى وعيد
انتقال السيدة العذراء الى تسليط الأضواء على هذه الزيارة، فنالت قدراً
كبيراً من الأهمية عن قصد او غير قصد.
فكيف أنّ ما جاءت به يوحي
بالكثير من المواقف، ولا سيما أنها ابرزت الودّ المفقود بين اركان الإدارة
الأميركية وبعض القيادات اللبنانية. فإن التزمت الولايات المتحدة الحدَّ
الأدنى من العلاقات مع بعض الأطراف فإنها في شبه قطيعة مع آخرين، وإن عقدت
لقاءً مع البعض منهم يكون حافلاً بالملاحظات التي لا تحتمل أحياناً ولو
جاءت بلغة دبلوماسية ناعمة لا تقارب اللغة الواضحة التي يستخدمها اركان
ادارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مباشرة من واشنطن، ولا سيما أحد صقوره
وزير الخارجية مايك بومبيو الذي يتخلّى في الكثير من مواقفه عن اللغة
الدبلوماسية الناعمة وهو ما خبره اللبنانيون مباشرة وعن قرب اثناء زيارته
الأخيرة لبيروت.
لذلك ترصد المراجع السياسية يومياً ذهاب بومبيو بعيداً
بعباراته القاسية والمختارة بعناية باتّجاه التنبيه والتحذير والتهديد
أحياناً، وهو ما يرفع منسوب القلق إن صدقت بعض السيناريوهات المتداولة التي
تهدد بتخلّي واشنطن عن احترامها واعترافها بنوع من الخصوصية عند مقاربتها
الشؤون اللبنانية، عدا عن إمكان فرض عقوبات جديدة على قيادات لبنانية
ومؤسسات ممَّن تعتبرهم في فلك «حزب الله». فبومبيو على تماس مع العديد من
المسؤولين اللبنانيين يستمع احياناً الى ملاحظاتهم وتحذيراتهم من مخاطر
ممارسة الضغوط العالية السقف على اللبنانيين فيأخذ بها أحيانا، وخصوصا عند
تناوله حجم الضغوط الإيرانية على لبنان التي لا يتوفر ما يبرّرها أحياناً
قياساً على حجم ما يمثل «حزب الله» من استقلالية ولو محدودة تجاه التوجهات
الإيرانية المعتمَدة في دول اخرى غير لبنان ونجاحه في لبننة مواقفه.
فاللبنانيون يشهدون يومياً على وجوه عدة للحزب ومواقف تبعده عن التأثير
المباشر لطهران رغم تأكيداته أنّ حياته أو موته رهن بما تقدّمه له
الجمهورية الإسلامية من كل اشكال الدعم المادي والمعنوي.
ومرد ذلك، انّ
في لبنان مَن يقدّم للحزب الهدايا يومياً على طبق من ذهب لا من فضة. ويقدم
له الإعتراف الدائم بدوره وحجمه الذي يصبّ في مصلحة لبنان.
ولا يغفل
أحد أنّ من بينهم وجوهاً كثيرة من مواقع عدة تحتفظ بالكثير من الشرعية
الحكومية والسياسية والحزبية، كما الشعبية، وهو ما يحول دون نجاح التحذيرات
الأميركية والضغوط أيّاً كان مصدرها خوفاً وقلقاً من قدرته على تعطيل عمل
المؤسسات وشلّها من دون أن يستخدم ترسانة اسلحته.
وللدلالة على صحة هذه
النظرية، فقد هال بعض البدلوماسيين العرب والغربيين ما كشفه الحزب قبل
ايام عن جزء من ترسانة صواريخه المضادة للسفن والبوارج والتي يمكن إخفاؤها
في مستودعات مجهولة الموقع. وإن تزامن الكشف عنها مع تاريخ إصابة البارجة
الحربية الإسرائيلية «ساعر 1» قبل 13 عاماً، فإنها تزامنت بشكل أساسي مع
زيارة الحريري لواشنطن فحضرت صورها على طاولة المفاوضات في مبنى وزارة
الخارجية ومزرعة الحريري في آن، كما في لقائه مع نائب وزير الدفاع الأميركي
جون رود الذي اضيف الى لائحة لقاءاته الأميركية دون الاعلان عنه مسبقاً.
على هذه الخلفيات، توقف المرتابون بزيارة الحريري عند ما كشفه بعفويته
امام مجموعة من الإعلاميين اللبنانيين المرافقين له والموجودين في واشنطن
عن مقاربته لملف قبرشمون وتنبيهه من مخاطر المَسّ برئيس الحزب التقدمي
الإشتراكي وليد جنبلاط، كاشفاً للمرة الأولى عن الحلف الذي جمعه مع الرئيس
نبيه بري إبّان معالجة تداعيات حادثة قبرشمون. فبرّر المقربون منه قلقهم
عندما ربطوا بين الموقف ومضمون البيان الأميركي المتشدد الذي ساهم في حسم
الجدل حول موضوع الإحالة الى المجلس العدلي واجراء المصارحة والمصالحة التي
أعادت إحياءَ دور جنبلاط وموقعه فتحوّل عصياً على مشاريع البعض بـ
«التقزيم» و»التحجيم».
وباعتراف المراقبين، فإن صحّت المعلومات التي
تقول إنّ ترتيبات زيارة جنبلاط لواشنطن في الأسبوع الأول من تشرين الأول
المقبل قد قطعت اشواطاً بعيدة. ورغم انّ التحضيرات للزيارة انطلقت قبل
حادثة قبرشمون بأسابيع فإنه من الطبيعي أن يزداد القلق لدى البعض الذي
يناهضها. وما يزيد القلق إن أُجريت المقارنة يومها بين ما رافق زيارة
الحريري وما سيرافق زيارة جنبلاط من اهتمام اميركي فوق العادة وما ستكون
عليه زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعه وزير الخارجية جبران
باسيل لنيويورك في الأسبوع الأخير من ايلول المقبل للمشاركة في اعمال
الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السنوية، فتقع الزيارة بما
سيرافقها بين نموذجي زيارتي الحريري وجنبلاط.
وبناءً على ما تقدم يمكن
فهم ردات الفعل «المتواضعة» لدى الرئيس الحريري تجاه من انتقد الزيارة. فهو
وإن عبّر أمس الأول في اتصالاته مع بيروت بأنه لا يقوم بما قام به سوى
لمصلحة لبنان، وأنه غير مسؤول عن اللهجة الأميركية المتشددة تجاه إيران
و«حزب الله». فلا هو ولا غيره قادر على التخفيف من حدّتها، ولكنه سيكون
بإمكانه فور عودته الى بيروت وضع المسؤولين في اجواء ما قام به لتجنيب
لبنان مخاطر المواجهة الأميركية – الإيرانية وما فعله تجاه «حزب الله»
ايضاً. وسيكون بإمكانه شرح التفاصيل، خصوصاً تلك المتصلة بما كان له من رأي
في التخفيف من مضمون البيان الذي تلاه بومبيو بعد اللقاء.
فقد كان في
شكله ومضمونه موضوع نقاش مسبق بين الحريري وكل من مساعديه نائبه للشؤون
السياسية دايفيد هيل ومساعده لشؤون الشرق الأدنى دايفيد شينكر اللذين
أبلغاه مسبقاً بمضمون البيان تاركين له هامش التعديل بما يخدم لبنان
واستقراره دون المَس بجوهر ما اراد البيان الإشارة اليه من ثوابت الإدارة
الأميركية غير القابلة للتعديل.
Views: 5