التنافس بين هذين الفريقين الدوليين على استمالة تركيا ليس جديداً لكنه انتهى منذ خمسينيات القرن الماضي الى الانتصار الأميركي مكللاً بانتساب تركيا الى حلف «الناتو» وتكوّرها ضمن العباءة الأميركية.
هناك عاملان مستجدان طرآ على هذه المعادلة التاريخية.
وهما انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية المشروع الأميركي لتشكيل الشرق الأوسط الجديد.
فاعتقد الأميركيون ان الترك على سالف عهدهم مؤيدون تلقائياً لأيّ تحرك أميركي جديد.
فيما اعتقد الأتراك انها الفرصة التاريخية الملائمة لإعادة إحياء نسبية لعظمتهم التاريخية من خلال الالتصاق بالحركة الأميركية الجديدة.
فهم من أكبر دول الشرق الاوسط وأقواها، فلماذا لا يحق لهم المشاركة في «لعبة» استعمارية تدور في منطقتهم وعلى صهوة جواد عثماني او بعمائم الاخوان المسلمين؟
هنا بدأ التباين يقترب والى حدود التناقض خصوصاً أن انهيار الاتحاد السوفياتي أوحى للأميركيين بانتفاء حاجتهم للخدمات التركية التي كانت تشكل قبل 1990 حاجزاً في وجه التقدم السوفياتي نحو الشرق الاوسط.
بما يسهم في تدني الدور التركي عند الأميركيين إنما من دون التخلي عنه في وجه روسيا على الاقل.
لكن أردوغان لم يقتنع فأفغانستان لم تستسلم وإيران اخترقت النفوذ الأميركي بنسج تحالفات مع بلدان كثيرة في الشرق الاوسط وتمكنت من الحد من تأثيره بشكل كبير في محطات اساسية في المنطقة.
بالمقابل وضعت تركيا امكاناتها الاستخبارية والتسليحية والحدودية والعسكرية في خدمة انتقال أعداد مذهلة من الإرهابيين الى العراق وسورية، إلا أن هذه الأدوار بدت في حينه متكاملة مع المشروع الأميركي بإسناداته السعودية والإماراتية والإسرائيلية.
إلا ان نتائج الجهود التركية لم تتطابق مع الحسابات الأميركية بدليل ان الأتراك استغلوا حتى آخر درجة ممكنة أهمياتهم الحدودية مع سورية والعراق وتجانسهم العرقي مع ذوي الأصول التركمانية في سورية والعراق وارتباطهم الايديولوجي بفدرالية الاخوان المسلمين العالمية.
فتوصلوا عبر استعمال هذه المقوّمات الى بناء إرهاب خاص بهم في عشرات التنظيمات المتنوّعة ناسجين مع متفرّعات منظمة القاعدة الإرهابية، ارتباطاً الى حدود الدمج مستغلين بالطبع رفضهم للعلاقة الأميركية مع الأكراد في سورية والعراق. لانها تهدد حسب مزاعمهم الوحدة الاجتماعية والسياسية والوطنية لبلدهم تركيا وعلى مستوى وحدة الكيان.
ما بدا خارجاً عن المألوف بالنسبة للأميركيين هو التقارب الروسي التركي الذي عكس سياسة روسية حكيمة تتعامل مع الأتراك بعقلية احتواء طموحهم الإقليمي وليس الصدام معه، مقابل عقد اتفاقات ثنائية بين البلدين لتصدير الغاز الروسي الى أوروبا وإعادة السماح للسياح الروس بارتياد تركيا مع عقد صفقات اقتصادية ضخمة وأسلحة مختلفة بينها أس أس 400 للدفاع الصاروخي.
لقد جاء هذا التقارب ثمرة تقارب سياسي بين البلدين التحقت به إيران منتجاً معادلتي «سوتشي وآستانا» لبناء حلول للازمة السورية.
وما أن أدركت وعود تركيا مراحل استحقاقها خصوصاً لجهة سحب الإرهابيين المرتبطين بها لنحو عشرين كيلومتراً الى داخل منطقة ادلب، حتى عاد الأميركيون الى محاولة إعادة تركيا الى قطيعها، عارضين عليها «منطقة آمنة مزعومة» عند حدودها مع سورية كوسيلة لاحتواء ما تعتقد انه خطر آتٍ عليها في المشروع الكردي في شرقي الفرات والشمال، وهو مشروع مدعوم أميركياً وبشكل علني هدفه رص الصفوف الكردية مع مشروع واشنطن وبشكل معادٍ للدولة السورية واستخدام الانتشار الديموغرافي الكردي في إيران والعراق وسورية وتركيا بما يرفع من فاعلية الاختراقات الأميركية.
وهكذا يتضح أن الأميركيين استفادوا من المراوغة التركية في تلبية نتائج آستانة لجهة سحب إرهابييها من قسم من إدلب، مراهنين على عدم الرغبة التركية بالخروج النهائي من الناتو، والعالم الغربي حيث يعمل ستة ملايين تركي في دوله المتنوّعة. فحاولوا فجذبوا الترك في عرض يقضي بنشر قوات تركية في منطقة سورية حدودية بعمق 14 كيلومتراً وطول لا يتعدى الثمانين كيلومتراً مع دعم احتلالهم لعفرين وإدلب وشمالي حماه وبعض ارياف حلب.
إن هذا العرض الأميركي «السخي» وبالطبع من أكياس الآخرين كالعادة يكشف عن محاولة أميركية لإيقاف التقدم الروسي عند حدود ادلب بواسطة المراوغة التركية بعدم تنفيذها للاتفاقات.
لقد اعتقد أردوغان ان الروس بحاجة بنيوية إليه، بما يسمح له بالمزيد من المراوغة والألاعيب متوهماً بوجود منعٍ روسي على أي عملية عسكرية سورية ضد مغامراته، مراهناً أيضاً على الانهماك الإيراني في التصدي للحرب الأميركية في الخليج.
إلا ان الواضح هنا، يتعلق بدولة سورية حليفة لروسيا وإيران، تعرف مصالحها والحدود التي يجب أن تقف عندها، بدليل أن تركيا لم تحترم مع موسكو وطهران أياً من التزاماتها على حساب السيادة السورية، كما ان الرئيس بوتين بات مقتنعاً بضرورة الذهاب الى الميدان العسكري لكبح الأميركي «وعقلنة» التركي فتبلورت معركة الجيش السوري في إدلب، نتيجة إصرار سوري واستحسان روسي وتأييد إيراني، ففوجئ الأتراك بالجيش السوري يتقدّم بسرعة نحو خط العشرين كيلومتراً في عمق إدلب بما أسهم ايضاً في تحرير أرياف حماه الشمالية وحاول الجيش التركي بإيعاز أميركي التقدم نحو خان شيخون لحماية الإرهابيين ومنعهم من الانسحاب وقراءة المدى الذي يريده الروس، وجاء الرد بقصف استهدف الرتل التركي من طائرات حربية سورية، أرغمته على التوقف.
عند هذا الحد، فهم الأميركيون ان روسيا مستعدة لمقارعتهم في الميدان، بوسائلها المباشرة، وعبر تغطية التقدم الميداني للجيش السوري. فهذه مرحلة مناسبة لسورية وروسيا لإفهام التركي بوقف محاولات الاستفادة من الصراع الروسي الأميركي على حساب الدور الروسي من جهة والسيادة السورية من جهة ثانية.
وهذه رسالة «إدلبية أولى» سرعان ما تليها رسائل متتابعة من الجيش السوري المدعوم من حلفائه لإخراج الدور التركي من سورية وتالياً من العراق وذلك لإعادته الى بلاده التي تستعد للقضاء على آخر السلاطين الوهميين رجب طيب أردوغان.
“البناء
Views: 5