نجحت الاستراتيجية الأميركية في توظيف وكلاء محلّيين في القضاء على “داعش” واعتقال الآلاف من عناصره من دون أية تبعات إنسانية أو قانونية تجاه الولايات المتحدة، إلا أن رفض الدول الأوروبية وغيرها لاستعادة رعاياهم المُعتَقلين بعد انتهاء التنظيم، تكون الولايات المتحدة وقعت في مُعضلةٍ جديدةٍ وهي كيفيّة التعامُل مع هذا الكمّ الهائِل من المُعتَقلين!
منذ انخراطها في الحرب في سوريا، عبر غاراتٍ جويةٍ شنَّتها على مواقع لتنظيم “داعش” في أيلول/سبتمبر 2014، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى المسألة الكردية كورقةٍ رابحةٍ في تحقيق أجندتها من التدخّل. حاجة الولايات المتحدة إلى حليفٍ قوي في المنطقة التي ينتشر فيها “داعش” في سوريا كانت مُلِّحة، وحاجة الميلشيات الكردية لسَنَدٍ دولي في تحقيق أحلام الانفصال في لحظة حَرِجَة من عُمر الدولة السورية كانت مُلحَّة لاستمرار مشروع “الإدارة الذاتية” التي أعلن عنها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي عام 2013.
توافقت الرغبتان وتوحَّدتا بتدشين التحالف عام 2014، حيث بدأت وحدات الحماية الكردية بتلقّي الدعم من واشنطن حتى تمكَّنت هذه الوحدات عام 2015 وبغطاءٍ جوي من التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، طَرْد تنظيم “داعش” من مدينة عين العرب أو كوباني على الحدود التركية بعد أكثر من أربعة أشهر من المعارك.
زُخم الانتصارات العسكرية للوحدات الكردية دفعها إلى مزيدٍ من التنظيم والتوسّع وبهَندسةٍ أميركيةٍ، تمَّ إنشاء “قوات سوريا الديمقراطية” عام 2015 بعديدٍ بلغ 25 ألفاً من الكرد وخمسة آلاف من العرب السوريين. بهذا التنظيم الجديد وبإسنادٍ أميركي جويّ واسعٍ ودعمٍ لوجستي تمكَّنت قوات سوريا الديمقراطية من انتزاع مناطق واسعة من شمال وشمال شرق البلاد من يد التنظيم المُتطرِّف، بينها مدينة منبج عام 2016 ومدينة الرقة عام 2017 قبل أن تعلن في 23 آذار/مارس 2019 “القضاء التام” على التنظيم مع سقوط الباغوز، آخر معاقِل التنظيم المُتشدِّد.
اليوم، وبإعلان ترامب بدء الانسحاب من سوريا يكون عَقْدُ تقاطُع المصالح بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية قد فُضَّ. واشنطن بعد هزيمة “داعش” وتفكيك خلافته لم تعد بحاجةٍ إلى الحليف الكردي في حين حاجة الكرد إلى الحليف الأميركي كانت كافية سابقاً لحمايتهم من أيّ تدخّلٍ تركي في المناطق التي يسيطرون عليها.
ويبقى التساؤل حول المُعضِلة الأساسية التي لا تزال تؤرِق الجانب الأميركي بعد فضّ عَقْد تقاطُع المصالح مع القوات الكردية؟
المُعضِلة الأساسية المُتبقّية للأميركيين هي في مُعتَقلي “داعش” لدى القوات الكردية في الشمال السوري. فالتقديرات تتفاوت بشأنهم. هم بالآلاف ولا شك، لكنّ المُستبَعد بلوغهم العشرة الآلاف مقاتِل. إلى جانب عددٍ كبيرٍ من النساء والأطفال في مناطق احتجاز، سبق أن رفضت الدول الأوروبية استعادة رعاياها منهم.
يُشكِّل هذا العدد عبئاً كبيراً على الولايات المتحدة التي تلطخَّت سمعتها في سجِّل حقوق الإنسان بعد فضيحة مُعتقلي غوانتنامو وأبو غريب سابقاً. ولهذا لم تفكِّر واشنطن بترحيلهم قَسْراً إلى المُعتقلات التي تقع تحت سلطتها الإدارية.
بعد أحداث الـ11 من أيلول/ سبتمبر 2001، نسَّقت الولايات المتحدة مع الدول المُعتِقلِة لمُقاتلي “القاعدة”، وشاركت في التحقيقات أو حضر مندوبون عنها بشكلٍ سرّي من أجل تكوين أكبر سجِّل معلومات حول “القاعدة” وقياداتها وفروعها وخلاياها وأطروحتها الأيديولوجية، ثم عَمَدت بعد حربها على العراق وأفغانستان إلى ترحيل عددٍ من المُقاتلين إلى مُعتقل غوانتنامو، أملاً في الحصول على مزيدٍ من المعلومات بشأن خِطَط تنظيم “القاعدة” العدائية تجاه الولايات المتحدة ومصالحها في العالم.
ظاهرة “داعش” كانت غريبة بعض الشيء على الولايات المتحدة. الانفلاش والتوسّع في عدد المقاتلين الذين توافدوا إلى سوريا وانضمَّ إليهم سوريون في ما بعد كان أكبر من أن تستوعبهم الخبرات الأميركية لناحية الرغبة عند هؤلاء المُجنَّدين الجُدُد بالموت في سبيل ما يؤمنون به.
أدركت الولايات المتحدة باكِراً أن جلّ التنظيمات المُتطرِّفة التي نشأت على ضفاف الاضطرابات والثورات في العالم العربي مطلع العقد الجاري وضعت العداء للولايات المتحدة على رأس أولوياتها. ولهذا حرصت واشنطن منذ تدخّلها في سوريا على التركيز على مسألتين جوهريّتين في هذا الملف: تكوين قاعدة بيانات كبيرة عن هذه المجموعات وأماكن انتشارها وأنواع الأسلحة المُستخدَمة لديها وعدد أفرادها وجنسيّاتهم والقيادات التي تُديرها وطبيعة الخطط والأماكن الموضوعة على قائمة الاستهداف لديها من ناحية، وعلى احتواء وتدمير هذه المجموعات على أرضها عبر وكلاء محليين ومن دون مواجهة مفتوحة أو خسائر في الأرواح أو تحمّل التبعات القانونية والإنسانية للحرب من ناحية ثانية.
وفق هذه الاستراتيجية، زرعت واشنطن وحلفاؤها في التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، الجواسيس داخل جسم العدو، حيث كان يرصد ويتعقَّب ويجمع المعلومات ويُقدِّم الإحداثيات التي سهَّلت مهمة التحالف الدولي في ضرب “داعش” في الصميم. وقامت فِرَق الكوماندوس الأميركي بتنفيذ مهمات قصيرة وخاطفة على الأرض، تمثّلت بالقبض على عددٍ من القيادات في “داعش” والقاعدة عبر إنزالات جوية سريعة داخل بيئة العدو.
نجحت الاستراتيجية الأميركية في توظيف وكلاء محلّيين في القضاء على “داعش” واعتقال الآلاف من عناصره من دون أية تبعات إنسانية أو قانونية تجاه الولايات المتحدة، إلا أن رفض الدول الأوروبية وغيرها لاستعادة رعاياهم المُعتَقلين بعد انتهاء التنظيم، تكون الولايات المتحدة وقعت في مُعضلةٍ جديدةٍ وهي كيفيّة التعامُل مع هذا الكمّ الهائِل من المُعتَقلين!
إصرار تركيا على فضّ الشراكة بين الأميركيين والكرد ونَزْع حلم الإقليم المستقل وترحيل عددٍ من اللاجئين السوريين عن أراضيها، أقنع ترامب بتذليل الطريق أمام إردوغان لإقامة “المنطقة الآمِنة” التي في الحقيقة ستُسهِّل الانسحاب الآمِن للأميركيين من المنطقة، وتنقل وصاية مُعتَقلي “داعش” لليد التركية من دون أن تتحمَّل واشنطن تكلفة الحروب المفتوحة في المنطقة.
المصدر : الميادين نت
Views: 5