مهدي نصير*
أتناول هذا الموضوع عبر محاور ثلاثة :
1. المصطلح والغموض الذي يحيط به .
2. العلاقة الجدلية بين الثقافة والأدب والفن من جهة والمعرفة من جهةٍ أخرى.
3. نموذج تطبيقي من الثقافة العربية الإسلامية يقرأ العلاقة التي أُنجزت في التاريخ بين الثقافة والأدب والفن والمعرفة وأيهما قاد الآخر إلى أرضه ؟.
أوَّلاً : يجب قبل البدء بالحديث عن الثقافة والأدب والمعرفة أن نتفق على تعريفٍ محدَّدٍ لكلِّ من هذه المفاهيم ،حتى يمكن قراءة تجلياتها التاريخية وقراءتها وتحليلها بشكلٍ علميٍّ محايد : لا أيديولوجي .
فالثقافة هي براكسيس التاريخ الفعلي ، أو هي مُركَّب الفكر والمعرفة وأنماط الحياة واللغة في تمثُّلها الفعلي في المجتمع، أو بصورةٍ أخرى هي مجموع المعارف الدينية والعلمية والغيبية والمعيشية والفنية السائدة في مجتمعٍ ما .
أما الأدب والفن فهما الثقافة النخبوية العالية التي تعبِّر وتتمثَّل بوعيٍّ تراث الأمَّة وطموحاتها وأحلامها الكبرى هو الضوء القادم من المستقبل لينير التاريخ الفعلي الذي يتحقَّق بفشلٍ أحياناً وبمأساةٍ أحيانا، وفي كلِّ الأحوال كان يتحقَّق ناقصاً مشوَّها ومليئاً بالدَّم والقتل والموت والجريمة والشر، وعلى أطرافِ هذا الدَّم كانت تنبتُ بعض الحقب الصغيرة والقصيرة مكانياً وزمانياً والتي تمثَّلَ بها الانسان بروحه وإنسانيته .
أما المعرفة فهي الفكر العقلي والفلسفي والعلوم بشتى تصنيفاتها، والتي ينتجها المجتمع بآلياته الثقافية والعلمية أو يتبناها لتطوير ذاته ومؤسَّساته وأفراده، والردّ على التحديات التي تواجهه .
سنلاحظ أنَّ التعريفات أعلاه ستُعيد تشكيل السؤال بين هذه الأقانيم الثلاثة : ( الأدب والفن، المعرفة بشقيها الفلسفي والعلمي، والثقافة )، فالسؤال يجب أن يكون " دور المعرفة والأدب والفن في تعزيز الثقافة " ،وليس دور الثقافة والأدب والفن في تعزيز المعرفة " ، إذ أن الثقافة والأدب ينتميان لفضائين مختلفين من حيث تشكُّلهما ودورهما ، بينما الأدب والمعرفة ينتميان للفضاء ذاته وهذا مطلوبٌ منه أن يؤثِّر في ثقافة المجتمع وتعزيزها وغرس القيم النبيلة والعلمية في سلوكه وعمله، والبحث عن آليات وصول منتجات الأدب والمعرفة إلى براكسيس الثقافة التاريخية، وهذا السؤال كان وما زال السؤال الأكبر في كلِّ فلسفات وأديان التاريخ البشري ، وفي هذا إجابة على المحور الثاني والمتعلِّق بالجدلية بين هذه الأطراف الثلاثة.
المحور الثالث هو : نموذج تطبيقي لهذه العلاقة بين المفاهيم الثلاثة المشار إليها في ثقافتنا العربية الإسلامية : ففي الثقافة العربية الإسلامية أخذ السؤال اتجاهاً آخر مغايراً ، ويمكن صياغته بالسؤال التالي: كيف أثَّرت الثقافة العربية الإسلامية على إنتاج المعرفة وتوجيهها باتجاهات قادتها إلى ما هي عليه الآن من انغلاق واستعصاء ؟ ، قلنا إن الأصل في العلاقة بين هذه المكوِّنات ، كيف تُغذِّي المعرفة والفنون بما فيه الأدب ثقافة المجتمع وترتقي به، أما أن تصبح الثقافة هي المُغذِّي للمعرفة وهي المُغذِّي للفنون فهذه معضلة التاريخ العربي الإسلامي منذ ألفِ عامٍ ويزيد ، قلْبُ الحقائق التي تسير عليها المجتمعات والتاريخ في نقل التطور العالي للنخبة إلى حيِّز الحياة والثقافة اليومية، لينتقل إلى قمع الثقافة لهذه النخبة وتهميشها وتهشيمها وفرض نموذجها عليه، وهذا ما حدث في التاريخ العربي منذ نكبة المعتزلة وتلتها نكبة ابن رشد والعقلانيين العرب والمسلمين .
ركَّزت الثقافة العربية الإسلامية بزخمٍ عالٍ في مراحلها كافةً على ما سمَّته العلوم الشرعية أو الشريفة، وأهملت بل واحتقرت العلوم الوضعية على أنها علوم أرضيةٌ – مع أن هناك نتاجاً علمياً وضعياً عربياً قام بترجمة وتطوير علوم الأقدمين العملية والوضعية من فرس ويونان ورومان وحاول البناء عليها، إلا أن مفاهيم الثقافة السائدة في تصنيف المعرفة ودرجاتها وشرفها وخسَّتها أدَّى إلى عدم الاهتمام العام – كثقافة – بهذه العلوم وانصرفت طاقة المجتمع إلى العلوم الشرعية والشريفة، وأهملت تقاسم الأدوار الاجتماعي وتنوع المعرفة وليس تراتبها من حيث الشرف والخسَّة.
نقرأ هذا التوجيه المجتمعي مسنوداً، ومُموَّلاً من الدولة في مراحل مختلفة ومتتابعة في التاريخ العربي الإسلامي وكما يلي :
• مذهب الجبرية الذي تبنته الدولة الأموية أولاً في الردِّ على مناوئيها ومن ثَمَّ تبنَّته معظم الدول الإسلامية المتعاقبة بالغلبة والتغلب، وهذا المذهب الذي يعطِّل طاقة الإنسان ويجعله مجبوراً وغير قادر على إنتاج شيء، وأن كلَّ ما يقوم به هو تنفيذ ما هو مكتوب في كتاب الأزل السماوي ، وهذا الفهم هو قسرٌ لجوهر الدين الاسلامي الذي دعا للعلم والتبصُّر والسعي في مناكبها والذي أوجد الثواب والعقاب ليؤكد حرية الانسان لا جبريته، هذا المذهب الثقافي عطَّل العقل العربي المسلم عن البحث في العلوم الأرضية الوضعية ( لأن كلَّ شيءٍ مكتوب بكتاب ) .
• المذاهب التي ناوأت هذا المذهب تم قمعها وصلبها والتمثيل والتشويه بدعاتها، والداعين إليها من معبد الجهني إلى الجعد بن درهم الذبيح إلى غيلان الدمشقي الذي تم صلبه في دمشق إلى صفوان بن الجهم الذي تم صلبه أيضاً.
• بعد هؤلاءِ الشهداء من أجل حرية الفكر التي دعى إليها الإسلام النقي، ومن تلاميذ هؤلاءِ الشهداء برزت حركة المعتزلة بمشروعٍ تصالحي مع السلطة السياسية، وابتعدت قليلاً عن المناوأة، واشتغلت بالفكر وإعمال العقل في سبيل زرع مفاهيم الحرية والعدالة، وحفز طاقة الناس للعمل لا التواكل الذي دعت له الجبرية ، مع ذلك لم تسلم هذه الحركة من القتل والتشريد والمنع والتحريم والتكفير .. الخ .
• الفلاسفة المسلمون أيضاً الذين استوعبوا المعضلة الكبرى وبنوا أرائهم بتحليلات عقلية عميقة للفكر اليوناني بمنطقه وإلهياته وفلسفته وأخلاقه وعلومه السلطانية ، كانت سموم الفقهاء تتوجه إليهم بالتكفير والخروج عن الملَّة، كالكندي والفارابي وابن سينا والسهروردي وابن رشد ولسان الدين الخطيب وغيرهم.
• في مطالع القرن التاسع عشر انتبه المثقفون العرب لخطورة هذه المعضلة التي تنخر في جسد الأمة، والتي قادته إلى هذا الدَّرك الإنساني والثقافي والاقتصادي والمعرفي، وبحيث أصبح المسلمون ومنهم العرب من أفقر وأبأس وأكثر شعوب الأرض تخلُّفاً، كان من هؤلاء المثقفين رفاعة الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي وتلاهم الكواكبي وقاسم أمين وطه حسين ، والذين كتبوا وناقشوا وعملوا على نشر رؤاهم النخبوية المطَّلعة على ثقافات الغرب التي تقدَّمت ومن خلال نشر المعارف العلمية الحديثة، ومن خلال نشر الأدب والفن الراقي والعالي ليدخل في نسيج ثقافة الناس وثقافة المجتمع وليدخل كمكوِّن من مكوِّنات التاريخ الفعلي الذي ينتجه الناس ويعيشونه .
• ما زالت هذه المعركة مستمرة بين ثقافة تدَّعي القُدسية وهي عاجزة عن مواجهة مشكلات العصر، وغير قادرة على أن تقدم شيئاً لأبنائها، وبين ثقافةٍ عربية تحاول أن تُعيد السؤال إلى مساره التاريخي بحيث تُغذي المعرفة العلمية والفنون بكافة أشكالها الثقافة اليومية والمتحرِّكة للمجتمع وربما ما يحصل الآن في دول الربيع العربي واحدٌ من مظاهر هذه المعركة القديمة المتجدِّدة والتي لم تُحسم بعد .
الحصن 12-4-2013
* أديب من الأردن. النص محاضرة القاها الكاتب في مؤتمر " سؤال الادب والمعرفة والثقافة " الذي أقامه ملتقى اربد الثقافي في جامعة اربد الأهلية في يومي 24-25 /6/2013 ,
Views: 0