انطلقت في جنيف يوم أمس 30 تشرين الأول 2019 اجتماعات لجنة مناقشة الدستور التي احتاجت لجهود مضنية كي تصل إلى هذه المرحلة، أي مرحلة بدء أعمالها بعد محاولات عديدة وكثيرة، منذ أيام الموفد الأممي السابق ستيفان دي ميستورا،
لفرض أجندة القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي كانت وما زالت تقود ما يسمى بـ«مجموعة العمل المصغرة» ممثلة لقوى العدوان والحرب على سورية، ومع كل ذلك فإن الجهود الدبلوماسية المكثفة للحليف الروسي، والدعم الإيراني عبر مسار أستانا ساهما بإيصال الأمور إلى هذه المرحلة، إضافة، وهو الأهم، إلى تمسك الدبلوماسية السورية بكل شجاعة واقتدار بثوابت أساسية لإطلاق عمل هذه اللجنة، ومنها التأكيد على السيادة السورية كاملة، ووحدة أراضي الجمهورية، وحصرية النقاش داخل اللجنة بين السوريين من دون أي تدخل خارجي، وملكية وقيادة اللجنة من السوريين، ورفض التقيد بأي جدول زمني يشكل عامل ضغط واستعجال على عمل هذه اللجنة.
يبدو واضحاً أن مباحثات الموفد الأممي غير بيدرسون في دمشق قبل انطلاق أعمال اللجنة كانت إيجابية، وهو ما بدا واضحاً من تصريحاته في جنيف خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل بدء أعمال اللجنة، وكذلك من الإجراءات المشددة التي اتخذتها الأمم المتحدة لمنع التسريبات، والتشويش على أعمال اللجنة كما كان يجري سابقاً في جولات جنيف، إضافة إلى منع دخول أي أطراف أخرى ليس لها علاقة مباشرة بعمل اللجنة «أي أطراف ليست سورية».
الإشارات الأولية تدعو للتفاؤل الحذر، وهذا لا يرتبط بالنيات الطيبة فقط لدى الطرف المدعوم من الحكومة لإنجاز تقدم حقيقي، إنما بالأطراف الأخرى التي للأسف تمثل أجندات دول وقوى خارجية، وليس أجندات وطنية سورية، وهو أمر لا يمثل اتهاماً لأحد، لأن ما نتحدث عنه موثق ومعروف ومكشوف للقاصي والداني، ومع كل ذلك نأمل أن تكون توجهات هؤلاء ونياتهم وإرادتهم قد تحررت قليلاً، وإن كان ذلك من سابع المستحيلات، لكن نأمل ذلك دائماً.
النقطة المهمة الأخرى أن ما حدث من تقدم للوصول إلى هنا ليس ناجماً عن نيات طيبة لدى أطراف محور العدوان، بل نتيجة للتغيرات الميدانية المتسارعة وللإنجازات التي حققها الجيش العربي السوري خلال العام الماضي وهذا العام بدعم الحلفاء، والتي أوصلت هذه الأطراف إلى قناعة شبه كاملة بعدم القدرة على الاستمرار بهذه الحرب بعد هزيمة الأدوات على الأرض، وكذلك الأصلاء، وتفكك محور العدوان على سورية، وتشرذمه إلى محاور متقاتلة مشتبكة مع بعضها بسبب ارتدادات الانتصار السوري البازغ، وهنا نشير إلى بعضها:
– الانسحاب الأميركي التدريجي من سورية.
– الصراع السعودي الإماراتي مع التركي والقطري.
– أزمة في العلاقات الأميركية التركية.
– أزمة السعودية في اليمن.
– الفشل الإسرائيلي في تغيير المعادلات على صعيد المنطقة.
– اضطرار الأوروبيين للبحث عن مخارج لمقارباتهم الخاطئة لما يجري في سورية.
– تفجر ملف اللاجئين السوريين في دول الإقليم «لبنان، الأردن، تركيا» وتحوله إلى ملف للتجاذب الداخلي.
– انكشاف المنظمات الإرهابية والتنظيمات التكفيرية التي استخدمت كأداة مباشرة لإسقاط الدولة السورية، الأمر الذي اضطر الولايات المتحدة الأميركية الراعي الأساسي للإرهاب للاعتراف في تقرير رسمي قدم للكونغرس في أيلول 2019: «من أن سورية تحولت لأكبر تجمع للمقاتلين الإرهابيين الأجانب بعد أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي».
لكن هذه العوامل لم تمنع واشنطن من الاستمرار في ضغطها وحصارها الاقتصادي على سورية وحلفائها في محاولة للحصول على ثمن سياسي، إذ يشير التقرير الذي قدم للكونغرس إلى ضرورة «حرمان نظام الأسد»، حسب تعبيرهم، ومؤيديه من جميع سبل التطبيع، من خلال فرض العزلة الدبلوماسية وفرض بنية عقوبات صارمة، إضافة إلى منع عودة اللاجئين السوريين عنوة، وحشد المساعدات لدعمهم.
إذاً، على الرغم من الأجواء الإيجابية التي أشرنا إليها، لكن الخصوم والأعداء ما زالوا مستمرين في الضغط على محور المقاومة، وها هي الأحداث في لبنان والعراق تؤشر إلى أن البديل للهزيمة العسكرية هو نشر الفوضى عبر ما يسمى بـ«ثورات ناعمة وخشنة» من أجل تحسين المكاسب السياسية، وقلب الأوضاع لتعديل موازين القوى التي رجحت بشكل واضح لمصلحة محور المقاومة.
الآن: عن أي دستور نتحدث، وأي دستور نريد، وما النتائج المتوقعة؟
من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة، لكن النماذج الفاشلة تشتعل في محيطنا، ففي لبنان يتابع الجميع تعقيدات الوضع السياسي الناجم عن بنية دستور طائفي، ومحاصصات في كل شيء، وأما في العراق فإننا نرى نتائج دستور «بريمر» الذي أنتج دستوراً مفخخاً، وعملية سياسية مترنحة يمكن تفجيرها في أي وقت مع تعالي الأصوات التي تنادي بدستور جديد يحقق التقدم، والتنمية في العراق أو في لبنان، ولأن الدستور السوري الموعود، أو التعديلات التي ستدخل على الدستور السوري الحالي ستكون محط أنظار الجميع في المنطقة، فإن المسؤوليات الملقاة على عاتق أعضاء لجنة مناقشة الدستور هي مسؤوليات تاريخية يجب أن تأخذ بالاعتبار أن الشعارات البراقة التي تطلق من هنا وهناك ليست ذات أهمية، فقد تبين أن الشفافية والديمقراطية والحرية و.. و.. ليست إلا دفتر شروط غربية أميركية يوضع لتطويع الدول والأنظمة في العالم لمصالحهم، والمطلوب تطويع هذه الشعارات لتكون في خدمة الشعوب ومستقبلها وتحصين منجزاتها الاقتصادية والاجتماعية، وهويتها الوطنية والقومية، وأما غير ذلك فلن يكون إلا وصفة إخفاق وانتحار، وخاصة أن الدستور الموعود يجب أن يكون بحجم تضحيات جيشنا البطل، وشعبنا العظيم، وبحجم انتصار سورية المرتقب والتاريخي.
قطعاً: إن أدوات وطرق ومقاربات قيادة سورية في المرحلة القادمة ستكون مختلفة ومتطورة ومرنة ما يساعد على قوة الدولة وليس ضعفها، وعلى قوة مشاركة المجتمع وليس شرذمته، وعلى وحدة السوريين تجاه أهدافهم الوطنية والقومية وبرامجهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس على تشرذمهم وانقسامهم لمصلحة قوى خارجية.
هذه هي العناوين الرئيسة والخطوط العريضة التي يجب على أعضاء اللجنة الدستورية وضعها نصب أعينهم، وأما الشعارات المستوردة فلا تهمنا كثيراً إذا لم تتحول إلى برامج عمل حقيقية تدفع التنمية والازدهار والاقتصاد للأمام، وخاصة أن ثورجيي سورية أتخمونا بشعاراتهم ليتبين لاحقاً أنهم مجموعة من العملاء والكذابين والمرتزقة!
نتطلع للمستقبل بتفاؤل، ولا أعتقد أن أحداً من السوريين سيسمح لبعض هؤلاء بالقفز فوق ما حفرته أقدام جنود جيشنا البطل في هذه الجغرافيا السورية العزيزة، أو القفز فوق صبرنا الأسطوري لنصل إلى نهايات ترتقي إلى مستوى التضحيات.
الوطن
Views: 1