علي حسون
لطالما نفّره واستفزه منظر الدم إلى حد الغثيان؛ وأياً كان مصدره: دجاجةً كانت أم خروفأً، أو حتى جرح صغير في إصبع طفل، ولذلك استحق لقب ” أبو قلب رهيّف” من أقرانه المراهقين الذين كانوا يتسابقون للفوز بمهمة ذبح دجاجة، لنيل اعتراف الأهل والمحيط بأن هذا الفتى “صار رجّال وقلبو قوي”!
ما زال يذكر اليوم الذي شكّل بالنسبة له نقطة اللاعودة فيما وصل إليه من “ضعف” تجاه أي نقطة دم تسيل، في أي مكان، وأياً كان شكل أو جنس الضحية المهدور دمها: كان مراهقاً في الخامسة عشر حين سمع من نافذة المطبخ المطلة على أرض الجيران صوت خوارٍ يشبه الاستغاثة. عندما نظر من خلف الزجاج رأى جموعاً تتعاون على تثبيت ثورٍ “مراهق” هو الآخر، كانوا قد ربطوا قوائمه الأربعة ليتولى بعضهم تثبيت الخلفيتين وآخرون لتثبيت الأماميتين، فيما تحلق ثلاثة منهم لتثبيت رأسه، وفي المنتصف ثمة “شيخ” ممتشقاً سكيناً كبيراً ثبّتها على رقبة “الضحية” وهو يتمتم بكلمات لم يفهمها.
كان ذلك العجل هو صديق أولاد الحارة الذين أطلقوا عليه اسم “عنتر” منذ ولادته في “حاكورة” الجيران، فكانوا يتراكضون خلف بعضهم حتى تنقطع أنفاسهم، وها هو قد استسلم أخيراً للجموع الغفيرة فخارت قواه، وسكنت مقاومته ليعلو صوت أنفاسه بشكل مسموع، إنها آخر الأنفاس هذه المرة. تكثّفت كل حركته وقتها في عينيه اللتان كانتا تبحثان بلا رجاء عن منقذٍ ما، لتلتقي في هذه اللحظة التي لن ينساها “المراهق البشري”، عيناه بعيني عنتر، وينتقل حينها كل الخوف والرعب وحبّ البقاء من عيني ذلك العجل إلى عينيه، توحّدا في تلك اللحظة، حدث أمرٌ عجيب، خيّل إليه أن السكين كانت على رقبته هو، حتى أنه شعر بدفق الدم ينطلق مغادراً كل أنحاء جسده ليتجمع في رأسه، في رقبته تحديداً، تماماً تحت حد السكين ما قبل الانفجار الكبير للدم، حينها صرخ بأعلى صوته الذي تحول إلى ما يشبه الخوار “اتركوه.. اتركوه لا تدبحوه.. حرام عليكن…شيلوا السكين “. ساد للحظات صمتٌ مطبق؛ لتلتفت أعين الجموع كلها نحو مصدر الصوت مصحوبةً بذهولٍ سرعان ما تحول إلى استهجان جماعي لهذا التصرف الأرعن من صاحب الصوت، بدأت بعدها التمتمات والتعليقات والتهديدات: “شو هالمجنون.. بعّدوه من هون.. حدا يضبّو”، تلتها اعتذارات بالجملة من ذلك الرجل في الوسط الذي رمقه بنظرة احتقار مشفوعة بشفقة المؤمن على الضال: “ما تآخذنا شيخنا”.
رغم مرور عقود من الزمن على تلك الحادثة، ما زال يتذكّر حتى اليوم الدموع التي نزلت من عيني العجل امتناناً ربما على محاولة إنقاذه؛ في الوقت الذي كانت عيناه هو أيضاً تنفجران بالدموع لفشله في إنقاذه، لينتهي الأمر بأن ينقضّ عليه شقيقاه وأبناء عمه، جرّوه خارج المطبخ، حبسوه في غرفة بعيداً عن أعين الناس حتى انتهت طقوس “العيد” وذهب الجميع سعداء وقد أكلوا ما تيسّر لهم من لحم عنتر!.
يتذكّر اليوم تلك “المأثرة” المجنونة ضاحكاً من نفسه، حين توهّم بأن صرخته ستوقف ما هو محتوم، صرخته تلك التي حولته إلى حديث أهله وأقربائه وأقرانه يتندّرون عليها حتى الآن.
يسألونه اليوم ضاحكين: بماذا كنت تفكّر حينها، كيف امتلكت كل تلك الجرأة، وبالأصح؛ الجنون لتقوم بما قمت به؟
يشاركهم الضحك هو أيضاً، يفكّر للحظة دون أن يفصح عما يجول في خاطره أمامهم، تلمع فكرة مجنونة أخرى في رأسه: ربما كنت أرى منذ ذلك الوقت ما سيحدث اليوم، حين سنتحول جميعاً إلى “أضاحي” على مذبحٍ ما تحت عنوان أو شعار ما، ربما عرفت باكراً بأن الدور قادم على الجميع، وأن ثمّة من سيستل السكين لذبحنا على غفلةٍ منا أو بتواطؤنا على أنفسنا، وقد يكون هؤلاء مؤمنون من نوع ما (بالخالق، أو بأنهم الفئة الناجية، أو بأعظم القضايا؛ الأمة الواحدة، التاريخ والمصير المشترك..).
يطلق ضحكةً قويةً تشبه تلك الصرخة قبل عقود، وفيما يسود الصمت بين الجميع مجدداً، يفكّر بصوت مرتفع هذه المرة: لقد كانت نبوءة..اعتبروني متنبئاً..!!
الأيام
Views: 2