الكاتب: البروفسور جاسم عجاقة
تتعرّض المصارف إلى ضغط كبير من قبل المودعين الذين يتهافتون لسحب أموال من المصرف أو تحويلها إلى الدولار أو حتى تحويلها إلى الخارج. هذا التهافت هو نتاج الفوضى التي تعصف بلبنان منذ أحداث قبرشمون في آب الماضي والتي أخذت منحى تصاعدي مع الإحتجاجات الشعبية ضدّ الفساد المُستشري في لبنان منذ أكثر من ثلاثة عقود!
من المعروف في الأسواق المالية أنه في حال الفوضى، تُصبح الشائعات المُحرّك الأساسي للمودعين والمُستثمرين وحتى المُستهلكين. فمثلًا يكفي أن يتمّ ترويج شائعة عن أزمة محروقات لنرى السيارات مُصطفّة في صفوف طويلة لملئ خزاناتها بالوقود. أيضًا يكفي ترويج شائعات عن شركة مُعيّنة لنرى أسعار أسهمها تتهاوى في البورصة (الجهات الرقابية تمّنع هذا الأمر)، أو كما هو الحال في لبنان حاليًا، وتحت تأثير الشائعات يتهافت المودعين في المصارف لسحب أموالهم تحت وابل الشائعات التي وبإعتقادنا أصبحت تُشكّل أكثر من 80% من إجمالي المواضيع المتداول بها على مواقع التواصل الإجتماعي.
المشاكل التي أظهرتها الفيديوهات المُسرّبة على مواقع التواصل الإجتماعي تُظهر بمعظم الأحيان مودعين يُطالبون بسحب أموالهم نقدًا. هذا الأمر هو حقّ للمودع نظرًا إلى أن الوديعة هي دين على المصرف وبالتالي هناك إلزامية على هذا الأخير بتسليم الأموال للمودع إذا كانت أموال جارية. عمليًا، طلب سحب أموال من المصرف نقديًا قد يخضع للتأخير في حال أن الفرع لا يمّتلك كل المبلغ في خزانته، وبالتالي يقوم الفرع بطلب فترة مُعيّنة من المودع لكي يتمكّن من طلب الأموال من الفرع الرئيسي للمصرف وتسليمه للمودع.
المُشكلة التي يواجهها القطاع المصرفي اللبناني حاليًا هو أن قسم كبير من المودعين يُطالبون بسحب أموال من المصارف في نفس الوقت. وهذا الأمر يطّرح مُشكلة السيولة التي لا يُمكن للقطاع المصرفي تأمينها لتلبية كل طلبات الزبائن!
سبب التهافت على السحوبات تعود بقسم كبير إلى الشائعات التي تجتاح مواقع التواصل الإجتماعي حوّل نقطتين: إحتمال إفلاس المصارف وإحتمال إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.
إحتمال إفلاس المصارف هو أمر مُستبعد أقلّه في المدى المنظور والسبب يعود إلى أن البيانات المالية العائدة لهذه المصارف تُظهر أنها قادرة حتى الساعة على تلبية كل الطلبات (ولو إحتاجت إلى بعض الوقت لتأمينها). على هذا الصعيد، كشفت بعض المصادر المصرفية أن المصارف اللبنانية تمتلك ودائع عائدة لها تصل إلى تسعة مليارات دولار أميركي وهو رقم كبير قادر على سدّ الطلب الحالي. وبحسب المعلومات المتوافرة طلب حاكم مصرف لبنان من المصارف التجارية جلب هذه الأموال من الخارج وضخ سيولة في الأسواق.
في الواقع الطلب على الدولار يأتي من ثلاثة جّهات:
الأول من الماكينة الإقتصادية وهو طلب هائل! حيث أن لبنان يستوّرد كل شيء حتى البضائع المُصنّعة في لبنان، تفرض إستيراد المواد الأوّلية. من هذا المُنطلق هناك إعتماد شبه كلّي على الإستيراد مُقوّم بالدولار الأميركي مع مدخول قليل بالدولار نسبة إلى كلفة الإستيراد.
الثاني من الدوّلة اللبنانية والتي أصبحت تستهلك الدولارات بشكل غير مسبوق على العديد الأمور (إستحقاقات الدين العام، فيول مؤسسة كهرباء لبنان، الخدمات الإستشارية…). وهذا الطلب سيزداد حكمًا مع تراجع تصنيف لبنان الإئتماني، تراجع النشاط الإقتصادي، غياب الإصلاحات المالية…
الثالث من المواطنين الذين أصبحوا يُشكّلون خطرًا حقيقيًا على النظام المصرفي إذا ما إستمر الوضع على ما هو عليه. بالطبع الطلب مُحقّ، لكن المصارف لا يُمكنها آنيًا من تلبيته.
على كل الأحوال، هناك مُشكلة ثقة حقيقة على كل الأصعدة وهذه الثقة هي العامود الفقري للإستقرار الإقتصادي، المالي، والنقدي وحتى السياسي. ولا يُمكن بأي شكل من الأشكال الإستخفاف بهذا البعد، لأن الإبقاء على الأمور كما هي، سيؤدّي حكمًا إلى تداعيات إجتماعية وحتى أمّنية.
هل هناك من إنهيار في الإفق؟
التحليلات التي قُمّنا بها تُظهر أن لا إنهيار إقتصادي، أو مالي أو نقدي. جلّ ما في الأمر أن كلّ يوم يمرّ يُكبّد الخزينة العامّة خسائر هائلة (نتيجة التراجع الإقتصادي) تُلقي بظلالها على القطاع المصرفي وعلى الليرة اللبنانية. والتأخير في القيام بإجراءات إصلاحية حقيقية (الكهرباء، الجمارك، التهرّب الضريبي…) سيؤدّي حكمًا إلى زيادة الخسائر على المالية العامّة بشكل تُصبح معه الإصلاحات صعبة ومُكّلفة خصوصًا على صعيد الضرائب التي ستأكل من القدرة الشرائية للمواطن وبالتالي تزيد من الفقر في لبنان.
أمّا على صعيد الليرة اللبنانية، فإننا نرى أن خفض سعرها سيولّد ثورة إجتماعية عنيفة ستتحوّل حكمًا إلى إضطرابات أمّنية..! وتخفيض سعر صرف الليرة يحتاج إلى قرار من الحكومة مما يعني قرار سياسي. لذا لا نرى من هو السياسي الشجاع الذي سيقترح أو يُقرّ تخفيض سعر صرف الليرة لأن في ذلك حرق لمسيرته السياسية!
في الواقع رفع الضرائب الذي سينتجّ عن تآكل المالية العامّة سيلعب نفس دوّر خفض سعر صرف الليرة نظرًا إلى القدرة الشرائية ستتراجع في الحالتين وسيكون هناك إرتفاع في نسبة الفقر على الصعيد الوطني خصوصًا أن قسمًا كبيرًا من الطبقة الوسطى يتواجد في أسفل هذه الطبقة مما يعني أن أي تآكل في القدرة الشرائية سيُسقط قسم كبير من هذه العائلات في خانة الطبقة الفقيرة.
من الواضح أن النظام الإقتصادي الذي تمّ إعتماده منذ أكثر من ثلاثة عقود لم يعدّ صالحًا لذا نرى أنه آن الآوان لتغيير هذا النظام بشكل سلس لا يُؤدّي إلى ضرر إجتماعي أو مالي كبير وتكون ركائزه العدالة الإجتماعية والشفافية المُطلقة.
يبقى القول أن التأخير في تشكيل الحكومة يُكبّد خسائر يومية على المالية العامّة، لذا نتمّنى على المعنيين الإسراع في تشكيلها رأفة بالبلاد والعباد.
Views: 5