الناشر: ذا إندبندت (The Independent)
الكاتب: روبرت فيسك (Robert Fisk)
تاريخ النشر: 8 تشرين الثاني/نوفمبر
تختلف نهاياتُ الحروبِ تماماً عن توقّعاتنا –أو خططنا– وهذا أمرٌ معروف منذ زمنٍ طويلٍ. ولا يعني “انتصارنا” في الحرب العالمية الثانية، أنَّ الأميركيين سينتصِرون في حرب فيتنام، أو أنَّ فرنسا ستهزم خصومها في الجزائر. ومع ذلك، في اللحظة التي نقرر فيها من هم الأشخاص الصّالحون، ومن هم الأشرار الذين يجب القضاء عليهم، ثم نعود لنرتكب أخطاءنا القديمة مجدّداً.
كوننا نختلف مع كلٍّ من صدام والقذافي والأسد ونعدّهم أعداءً لنا، كنا على يقين –ومقتنعين تماماً– بأنّه سيتم الإطاحة بهم وستطلّ سماء الحرية الزرقاء على أراضيهم المُدَمَّرة. هذا أمر صبياني وطفولي وغير ناضج (لكن، لا أعتقد أنه أمرٌ مفاجئٌ للغاية بالنظر للهراء الذي نستعد لتداوله على أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي).
في الحقيقة، لقد جلبت نهاية صدام المزيد من المعاناة التي لا يمكن تخيلها للعراق. وكذلك الأمر بالنسبة لاغتيال القذافي بجانب مجاري الصرف الصحي الأكثر شهرةً في ليبيا. أما بالنسبة [للرئيس] بشار الأسد، فبعيداً عن الإطاحة به، ظهر كأكبر فائز في الحرب السورية. ومع ذلك، ما زلنا مصرّين على رحيله. ما زلنا عازمين على محاكمة مجرمي الحرب السوريين –ونعطي لأنفسنا الحقّ في ذلك– إلا أن الدولة السورية قد خرجت من أمواج الحرب الدمويّة، على قيد الحياة، لتحظى أكثر من أيِّ دولةٍ في الشرق الأوسط بحليفٍ قويٍّ يمكن الوثوق به؛ وهو الكرملين.
أنا احتقر كلمة “تنسيق/إعداد”، إذ يبدو أن الجميع يقومون بإعداد السيناريوهات أو تنسيق المحادثات السياسية أو إعداد مجموعات العمل. يبدو أننا مدمنون على هذه الكلمات التنسيقية الفظيعة. ولكن، سأستخدمها لمرة واحدة وبشكل حقيقي؛ إن أولئك الذين أعدّوا رواية –الحرب السورية في السابق، كانوا مخطئين منذ البداية.
[كان السيناريو كالآتي] يتنحى الرئيس بشار الأسد عن السلطة، بعد أن يدفعَه “الجيش الحرّ” –والذي من المفترض أنه مُكوّن من عشرات آلاف الفارين من الجيش العربي السوريّ– والمتظاهرون “العزّلُ” في داريا ودمشق وحمص للتخلي عن السلطة. وبالطبع، ستنتشر الديمقراطية على الطريقة الغربية، وستصبح العلمانية –والتي من المفترض أنها أساس حزب البعث– أساساً لدولة عربية ليبرالية جديدة. لنضع الآن جانباً أحد الأسباب الحقيقية لدعم الغرب لـ “التمرد”؛ تدمير الحليف العربي الوحيد لإيران.
لم نكن نتوقع مجيء تنظيم “القاعدة”، الذي تم تجميله الآن باسم “النصرة”. ولم نكن نتخيل أن كابوس “تنظيم الدولة” سيخرج كالجنّي من الصحاري الشرقية. كما أننا لم نعِ –ولم يتم إخبارنا– كيف استطاعت هذه الطوائف المتأسلمة، أن تمتطي “ثورة” الشعب التي آمنّا بها.
ما زلت أحاول إلى هذا اليوم أن أفهم كيف تحول “التمرد” السوريّ إلى آلة قتل مروعة لتنظيم “داعش”. كانت بعض الجماعات الإسلامية موجودة في حمص منذ البداية في 2012. (ليس كلّ الجماعات، ولم يكن تحولها أمراً بسيطاً).
ربما كان “المتمردون” السوريون ذويّ شخصيات شجاعة وعقلية ديمقراطية. ولكن كانت هناك مبالغة بقوتهم في الغرب. فبينما تخيل ديفيد كاميرون أن هناك نحو 70 ألفاً من “المعتدلين” في صفوف “الجيش الحر” الذين يقاتلون ضد الدولة السورية –لم يكن هناك أكثر من 7 آلاف– وكان الجيش السوري يتحاور معهم بالفعل، وأحياناً عبر الهاتف المحمول مباشرة، لإقناعهم بالعودة إلى وحداتهم العسكرية الأصلية الخاضعة لسيطرة الدولة أو لتسليم بلدة ما دون قتال أو إعادة جثامين جنود الجيش السوري مقابل الغذاء. قد يقول الضباط السوريون إنهم فضلوا دائماً قتال “الجيش الحر” الذي كان يفر منهم؛ بالمقارنة مع “النصرة” أو “تنظيم الدولة” الذين لم يفروا منهم.
كتب فينسنت دوراك مؤخراً، بروفيسور في سياسة الشرق الأوسط في جامعة دبلن، أنَّ هؤلاء الحلفاء من الميليشيات العربية كانوا “من صنع تركيا”. ومع ذلك، ما نزال في يومنا هذا نستخدم في تقاريرنا الصحافية، عندما نتحدث عن الغزو التركيّ لشمال سورية، تعبيراً غريباً في وصف حلفاء تركيا من الميليشيات العربية، فنُطلق عليهم اسم “الجيش الوطني السوري” –الذي يواجه الجيش العربي السوري الشرعي والتابع للدولة السورية والذي ما زال موجوداً بثبات.
هذا هراء. إنهم بقايا “الجيش الحرّ” الذي أصبح الآن بلا صدقيّة على الإطلاق –وهي جحافل ديفيد كاميرون الخرافية. لقد حاول عدد قليل جداً من المراسلين (باستثناء المراسلين الكرام في القناة الرابعة للأخبار) توضيح هذه الحقيقة الحربية المهمة للغاية، حتى أنهم عرضوا صوراً تُظهر بوضوح رجال الميليشيات المدفوع لهم من قبل الأتراك وهو يرفعون علمَ “الجيش الحر” القديم ذا اللون الأخضر والأبيض والأسود [علم الانتداب].
إنهم رجال من بقايا “الجيش الحرّ”، دخلوا جيب عفرين الكرديّ العام الماضي، وساعدوا زملاءهم في “النصرة” على نهب المنازل والمنشآت الكردية. وقد أطلق الأتراك على هذا العمل الاحتلالي العنيف اسم “عملية غصن الزيتون”. ومن المثير للسخرية والضحك هو تسمية غزوها الأخير باسم “عملية نبع السلام”. كان يمكن أن تثير هذه العملية المزيد من الاحتقار والازدراء. ولكنها لم تعد كذلك. فاليوم، تعاملت وسائل الإعلام إلى حد كبير مع هذه التسمية السخيفة بشيء قريب من الاحترام.
نستخدم نحن الحيل نفسها مع ما تسمّى بـ “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكياً. فكما قلتُ من قبل، إن معظم عناصر “قوات سوريا الديمقراطية” تقريباً هم من الكرد، ولم يتم انتخابهم أو اختيارهم أو ضمّهم إلى “القوات” بشكل ديمقراطي. في الواقع، لم يكن هناك أي شيء قريب من الديمقراطية بخصوص هذه الميليشيا، التي لم تكن لتصمد وقتاً أطول دون دعم القوات الجوية الأمريكية. ومع ذلك، ظل اسم “قسد” متداولاً من غير شك في وسائل الإعلام.
ولكن، عندما غزا الأتراك سورية، لإبعاد الكرد عن الحدود السورية التركية، تحولنا فجأة لنطلق عليهم اسم “القوات الكردية” –التي خانها وخذلها الأمريكيون– وهي فعلاً كذلك.
من المفارقة، والتي قد تكون ببساطة إما منسية أو غير معروفة، هي أنه عندما بدأ القتال في حلب في عام 2012، أعان الكردُ “الجيشَ السوريّ الحرّ” على الاستيلاء على العديد من مناطق المدينة. وبعد ذلك بسبع سنوات، أصبح الطرفان يقاتلان بعضهما عندما غزا الأتراك حدود “روج آفا” الكردية “الحرة”. صحيح أنه لم يتم التصريح كثيراً عن تقدم “الجيش الحر” نحو الداخل السوري، إلا أن ذلك الأمر سمح لآلاف القرويين السوريين العرب بالعودة إلى المنازل التي كان يستولي عليها الكرد عندما أقاموا “دويلتهم” المحكوم عليها بالفشل بعد بداية الحرب.
والآن، انحرفت رواية الحرب هذه، بعد أن أصبحنا نتوقف عند أي رواية تشكك في الدّور الجديد للمملكة العربية السعودية في الأزمة السورية.
كان لسان حال السياسة السعودية الإنكار ثم الإنكار، عند سؤالها عن المساعدة التي قدمتها لـ “المتمردين الإسلاميين” المناهضين للرئيس الأسد في سورية. وحتى عند العثور على وثائق تخص أسلحة بوسنية وُجدَت في قاعدةٍ تابعة لـ “النصرة” في حلب، وباعتراف من صانع الأسلحة نفسه قرب سراييفو، يُدعى إيفيت كرنييتش –الذي وضّح لي كيف تم إرسال الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية (حتى أنه وصف المسؤولين السعوديين الذين تحدّث معهم في مصنعه)– فيما أنكر السعوديون هذه الحقائق.
ولكن، يبدو بشكلٍ يكادُ أن يُصدّق، أنَّ السعوديين أنفسهم يفكرون الآن بنهج جديد تماماً تجاه سورية. فقد أعاد الإماراتيون، الذين هم حلفاؤهم في الحرب اليمنية (وهي كارثة سعودية أخرى)، فتح سفارتهم في دمشق: وهو قرار في غاية الأهمية من قبل دولة خليجية، رغم أنه تم تجاهله في الغرب إلى حدٍ كبير. والآن، يبدو أن السعوديين يفكرون في تعزيز تعاونهم مع روسيا عن طريق تمويل إعادة إعمار سورية، إلى جانب الإماراتيين، وربما انضم إليهم الكويتيون.
وبذلك، سيصبح السعوديون ذوي أهمية أكبر للدولة السورية من إيران التي أنهكتها العقوبات، وربما يستطيعون أيضاً عرقلة علاقات الود المتزايدة من قبل قطر –وإن كانت سرية للغاية– مع الرئيس بشار الأسد. فرغم بث قناة الجزيرة الذي يجوب كل أنحاء العالم، يريد القطريون بسط قوتهم على أرض الواقع؛ وسورية هدف واضح لكرمهم وثروتهم. ولكن، إذا قرر السعوديون أخذ هذا الدور المُتعِب على عاتقهم، فستتمكن المملكة من أن تشق طريقها بقوة على حساب كل من إيران وقطر في آن واحد. أو هذا ما تظنه المملكة. إنَّ السوريين طبعاً –الذين يتمثل جوهر وصلب سياستهم في أوقات كهذه بالانتظار والانتظار– هم الذين سيقررون كيف سيتم اللعب مع طموحات جيرانهم.
ولكن، ليس الاهتمام السعودي بسورية مجرد تخمين. فقد أبدى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رأيه لمجلة التايم في آب/أغسطس من العام الماضي: «بشار الأسد سيبقى، ولكن أنا أؤمن أن مصالح بشار لن تكون بالسماح للإيرانيين بالقيام بما يريدونه». يتحدث السوريون والبحرينيون مراراً عن بلاد الشام بعد الحرب. حتى أن الإمارات قد تقوم بالتوسط بخصوص التفاوض بين السعوديين والسوريين. وترى دول الخليج الآن أنَّ تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية كان أمراً خاطئاً.
وبعبارة أخرى، تستعيد سورية بثبات –وبتشجيع روسي– ذلك الدور الذي حافظت عليه قبل “ثورة” 2011.
لم تكن هذه النتيجة ما تخيلناه في الغرب آنذاك، عندما كان سفراؤنا في دمشق يشجعون المتظاهرين السوريين في الشوارع على مواصلة “كفاحهم” ضد “النظام”؛ وعلى وجه التحديد، عندما طلبوا من المتظاهرين عدم التحدث أو التفاوض مع الحكومة السورية.
ولكن، وقع كل ذلك في الأيام التي سبقت ظهور عنصرين مجنونين جاءا لتحطيم كلّ افتراضاتنا ولزرع الخوف وانعدام الثقة في الشرق الأوسط: دونالد ترامب و”تنظيم الدولة”.
مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات
Views: 3