الكاتب: إيفان تيموفيف
أثارت أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2019 في سورية وتطوراتها اهتماماً كبيراً، وبخاصة في تفاصيل العلاقات الدولية الحديثة، إذ اتخذ عضوان من حلف الناتو هما الولايات المتحدة الأمريكيّة وتركيا مواقف متناقضة بشأن القضية الكردية، وكان على واشنطن فرض عقوبات اقتصادية على أنقرة حينما قامت تركيا بعملية عسكرية دون النظر إلى رأي بقيّة الأعضاء، وقد ظهرت مرة أخرى المواقف السلبية لدول الجزء الأوروبي من الناتو، كما عززت روسيا من جديد موقفها حين أنفقت موارد قليلة لتحافظ على علاقات متوازنة مع مراكز القوى الإقليمية الرئيسة، وبقيت إيران لاعباً مؤثراً في سورية رغم الضغوط الاقتصادية الأمريكية الهائلة عليها، علاوة على ذلك تزايد تصميم إيران على الاستفادة من إمكاناتها في سورية والمنطقة ما يزيد احتمالات استمرار واشنطن في معاقبة طهران، يضاف إلى ذلك ما قدمته دول الخليج من موارد مالية وعسكرية قوية لمنع إيران من لعب هذا الدور الحاسم في سورية، وما تزال الصين المتنامية باستمرار تلوح في الأفق البعيد محاوِلة أن تنأى بنفسها عن شؤون الشرق الأوسط على نحوٍ جوهريٍّ ومبدئي، لكن حقيقة وجودها تجعلها جزءاً من المعادلة.
وعلى خلفية التراجع الأمريكي الواضح في سورية، قامت الولايات المتحدة بعملية مداهمة لتدمير مقرِّ “أبي بكر البغدادي” زعيم تنظيم “داعش” الإرهابي (المحظور في روسيا وعدد من دول العالم)، وذلك بدعم ضمني من روسيا وتركيا والعراق والأكراد (وفقاً للمسؤولين الأمريكيين)، ومع ذلك فإن الأمريكيين لم يغادروا حقول النفط السورية، مع تمسكهم بقرار حظر نفطي صارم ضد سورية.
في جميع الاحتمالات، وفي خضم هذه الأحداث الجارية، يُظهر بعض اللاعبين أن أعمالهم تسعى إلى تحقيق مصالح براغماتية محددة تماماً، وأن إرادتهم السياسية تتفوق على القيود الهيكلية القائمة، سواء أكانت تحالفات أم قرارات لمؤسسات دولية أم التزامات مع الحلفاء. ويبدو أن سياسة “الوكلاء” ذاتها، أي الدول الفردية، لا تنسجم مع المنطق الخطي والإجراءات الدقيقة المحددة التي تنتج عن مجموعات متطورة تحقق فوائد ملحوظة، في حين أن قوة السلطة الهائلة والموارد والأموال لا تضمن النجاح لها. بعد كل شيء، فإن الخلافات السياسية للحلفاء (الولايات المتحدة وتركيا) حول القضايا الفردية ليست الأولى، ومع ذلك أصبحت الصفقات ظرفية على نحو متزايد، والآفاق الاستراتيجية وراء المهام التكتيكية غير واضحة. كما أنه من السابق لأوانه شطب سلطة الدول ذاتها، وكما قال كينيث والتز –منظّر أمريكي متخصص في علم العلاقات الدولية: «إن الدول القوية قد تخطئ بالتأكيد، ويمكن أن تكون الدول الضعيفة أكثر نجاحاً في مواقف معينة ومع ذلك فإن الدول القوية أكثر مرونة ويمكن لها القيام بمزيد من المحاولات، ومع ذلك، لدى الأقوياء هوامش أمان أكثر، ما يعني القيام بالمزيد من المحاولات، وإذا كان الأقوياء قادرين على تحمل الأخطاء، فإن أي خطأ قد يصبح قاتلاً بالنسبة للضعفاء…».
هذه الأحداث التي تجري تعيدنا إلى واحد من الأسئلة الأساسية لعلوم العلاقات الدولية: ما الذي يجعل البعض أقوى والبعض الآخر أضعف؟ هل هناك صيغة عالمية للسلطة والنفوذ تنتج النجاح في ظل ظروف مختلفة؟
بُذلت محاولات عدة لإيجاد صيغة عالمية من خلال مقارنة لجميع الدول مدّة طويلة، وما زالت حتى وقتنا الحاضر، وكانت جميعها تعتمد على معايير الاقتصاد والقوة العسكرية، ويذكر أن دراسة أمريكية للقوة العسكرية استخدمت معايير، مثل: حجم القوات المسلحة والإنفاق الدفاعي وإنتاج الطاقة وصهر المعادن والسكان وسكان المدن، ورغم كل هذه النسبية فإن التركيز على الاقتصاد والإمكانات العسكرية هي نماذج في المقارنات العالمية، والمشكلة في كيفية ضبط الفهارس لتأخذ بالحسبان الفروق الدقيقة المختلفة، وقد حاول مشروع بحث روسي “الأطلس السياسي للعصر الحديث” للباحث أندريه ميلفيل وآخرين مراعاة الفروق الدقيقة للدول، بالإضافة إلى التطور التكنولوجي لها ومؤشرات القوة الناعمة.
تعاني صيغ القوة العالمية للسلطة من الآتي:
1.بدأ المجتمع الدولي يشهد تغيّراً في موازين القوى، من حيث حسابات القدرة والدور، فبعض الدول التي كانت تصنّف صغيرة حسب معايير القياس القديمة من حيث الحجم وعدد السكان والقدرة العسكرية والإمكانات الاقتصادية، أصبحت تصنف أحياناً بأنها دول قوية من حيث الفاعلية والدور والقدرة على التأثير، ما يشكل عجزاً للدول الكبرى القوية عن تحقيق الأهداف المرسومة لها، وبالتالي تزداد الهوّة بين الإمكانات وبين القدرات، ولكن هذا نادراً ما يشكل عائقاً لها، وعلى هذا النحو، فإن أي مؤشر يكشف الإمكانات عن وجود قائد متفوق واحد وعدة قادة غيره بالتوازي، كما يكشف عن كتلة الدول التي تتخلف عشرات أو حتى مئات المرات، ويتم الخروج عن هذا المؤشر حينما يتعلق الأمر بنوعية العلاقات بين الدول، إذ تمثيلاً لا حصراً، تتمتع الولايات المتحدة، دون شك، بسلطة أكبر مقارنة بروسيا أو الهند أو جمهورية الصين الشعبية، لكن سيناريو العدوان العسكري الأمريكي ضد أي من هذه الدول غير وارد، وعلى الأرجح تكون التكاليف المادية الباهظة هي السبب، وكذلك الأمر عند مناقشة عمليات عسكرية محتملة ضد إيران، البلد الأضعف بنظرها وغير النووي، لن تفكر الولايات المتحدة بذلك وما زالت ترفض هذا المسار حتى الآن، لأن تكاليف هذه الحرب كذلك ستكون باهظة جداً، وبمعنى آخر، فإن توازن القوى لا يعطي فكرة عن نوعية العلاقات بين الدول.
2.معايير ارتباط القوة بالإمكانية أو القدرة التي تمكّن مستخدمها (الدولة) للتأثير على الآخرين وإخضاعهم لإدارة القوى الفاعلة في أي موقف اجتماعي سياسياً كان أم اقتصادياً أم ثقافياً، وتُعد قوّة الدولة من العوامل التي يعلّق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، ذلك لأن هذه القوّة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي، وهي التي تحدد إطار علاقاتها بالأطراف الخارجيّة في البيئة الدولية، ومعيار قوتها هو الوصول إلى أهدافها في استخدام طاقتها التي تسهّل السيطرة على تصرفات الآخرين والتحكم بها، وفي تحليل استخدامات القوّة في الفكر الاستراتيجي فإن ذلك يتم عند استخدام أدوات القوّة العسكرية أو الأدوات الاقتصادية أو العمل الدبلوماسي في القرارات السياسيّة. وتتركز مهام المسؤولية عن كل أداة في تحديد الكيفية التي يتم بها استخدام هذه الأدوات لتحقيق الأهداف خاصة فيما يتعلق بالقرارات الكبرى.
كما لا يعني هذا أن الدولة القوية التي تسيّر الأمور وفقاً لمصالحها واستراتيجيّاتها هي دولة سيئة أو فاسدة، فالسوء والفساد والأنانية أمور مستقلة عن مفهوم القوّة، خاصة وأن هذا المفهوم قد تجاوز في مضمونه الفكري المعنى العسكري الشائع إلى مضمون حضاري أوسع ليشمل القوة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والثقافية والتقنيّة. إلا أن توفر مقوّمات القوّة هذه لا يكتسب وزناً وتأثيراً بمجرد الحصول عليها، وإنما يرتبط هذا الوزن والتأثير بالقدرة على استخدام ذلك في تمكين الدولة من التدخل الواعي لتحويل مصادر القوّة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال، فالقوة هي مجرد امتلاك مصادر القوّة كالموارد والقدرات الاقتصادية وحسن إدارتها، والمُكنة العسكرية والسكانيّة وغيرها. أما القدرة فتنصرف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في إرادات الآخرين.
كان الاتحاد السوفييتي في عام 1989، قوة عظمى مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبإمكانات ديمغرافية كبيرة “الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة “، وأفضل جيش في العالم. لكنه انهار بين عشية وضحاها وفقاً للمعايير التاريخية، وقد لوحظت خلال ذلك أمور مهمة حول حالة النخب، “انهيار الروح والإرادة”، العدمية الكامنة والسخرية الكاملة في ما يتعلق بالإيديولوجية القائمة، وإبان حقبة انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وإعلان جمهورية روسيا الاتحادية، واستقلال دول الكومنولث الواحدة تلو الأخرى، حدث تدهور وانهيار شديدين في الدولة الروسية داخليّاً (الاقتصاد، التجارة، الاستثمار… إلخ) وخارجيّاً (السياسة الخارجية، المكانة الدولية… إلخ)، حتى أُطلِق على روسيا لقب “الرجل المريض”.
من المثير للاهتمام أن “الأطلس السياسي” الروسيّ كشف عن نظام مهم يرى أن السلطة لا تؤخذ بالحسبان بذاتها فقط؛ بل أيضاً مع اعتماد معايير أخرى كتاريخ الدولة ونظامها السياسي، ونوعية الحياة، والمستوى الفكري والثقافي والاقتصادي وغيره.. ومستوى التهديدات للدولة ومصدرها، ما يدلُّ على أنَّ “صورة العالم” مختلفة بعض الشيء، وبدلاً من المقياس الخطيِّ يظهر مشهد من مجموعات مختلفة من الدول، وكل مجموعة لها بعدها الخاص، بمعنى آخر، توجد الدول الحديثة في حقائق متوازية كما كانت، ولكل حقيقة معايير خاصة بها، نادي القوى العظمى لديه بعد واحد وجدول أعمال، ومجموعة الدول المتقدمة ذات الجيوش الصغيرة نسبياً لها معايير مختلفة وأبعاد أخرى، ومجموعة الدول المتخلفة التي تقاتل من أجل بقائها ولا تزال لديها مجموعة أخر تتخفّى وراءها وتكافح من أجل البقاء. تتفاقم المشكلة بسبب حقيقة أن هذه المجموعات وجداول أعمالها قابلة للاختراق في يوم من الأيام، ويمكن لدولة من مجموعة القوى العظمى أن تطرق باب الدولة من مجموعة متخلفة أو حتى “رغيدة الحياة” مع جدول أعمالها غير المرحب به دائماً في شكل غارات قصف أو عمليات سرية أو عقوبات اقتصادية مفتوحة وتدخلات سياسية وغيرها.
السؤال الرئيس ماذا يعني كل هذا بالنسبة لروسيا؟ هناك حقيقة يتم تجاهلها بشكل متكرر مع متابعة التطورات الدولية وسرعة نمو الهند وجمهورية الصين الشعبية، وحياة الألمان الجديدة بعد توحيد الألمانيتين، وحضارة كوريا الجنوبية، وديمقراطية سويسرا، إلى أي مدى سيبقى الأمريكيون مثالاً يحتذى به للدول الضعيفة، وماذا عنا؟ نحن مثل المتدربين الذين يُحاضر فيهم آباؤهم ويلوّحون لهم بالعصا كل يوم.
إذا كان “الوكلاء” يحلون محل “الهياكل” في العلاقات الدولية الحديثة، فربما يستحقُّ الأمرُ تغيير العدسة التحليلية التي ننظر من خلالها إلى “الوكلاء”، وبخاصّة الوكيل غير التقليدي مثل روسيا. ربما يجب أن ننطلق من صفات “الوكيل” بدلاً من الصيغ العالمية التي ندرس بها “الهياكل”. هذه المسألة مهمة من الناحية المنهجية والسياسية على حد سواء.
في النهاية نحن نتحدث عن مصادر هويتنا السياسية. يمكن لنا البحث عنها في محاولة للتوافق مع معيار عالمي ولكن يمكن لنا أيضاً البحث عنها في أنفسنا تفاصيلنا وتوازن النقاط القوية والضعيفة، وفي نهاية المطاف في تاريخنا وثقافتنا. من الممكن أن نعيد اكتشاف أنفسنا من جديد.
مداد مركز دمشق للابحاث والدراسات
Views: 6