ليس بالجديد القول أن الدين العام في لبنان وصل إلى مستويات عالية جدًا أصبح معها لبنان من أكثر الدول مديونية في العالم. هذا الواقع إمتزج بتراجع هائل لإيرادات الدولة اللبنانية في الأشهر الأخيرة بحسب وزير المالية علي حسن خليل مما يعني أن مُشكلة الدين العام أصبحت مُشكلة حقيقية فرضها واقع ما هو إلا نتاج عدّة عوامل نذكر منها:
أولا- غياب إقتصاد مُنتج مع تركزّه على الخدمات والريع كدخل أساسي مما يحدّ من النمو الإقتصادي. ويأتي غياب الإستثمارات منذ العام 2011 وحتى يومنا هذا ليزيد من متاعب لبنان الإقتصادية مع العلم أنه لا يُمكن لبلد أن يُحقّق نمواً إقتصادياً من دون إستثمارات.
ثانيًا- سياسات حكومية إعتمدت على الإستدانة بشكل أساسي لسدّ العجز في الموازنة وبالتالي تراكم هذا الدين العام ولم تستطع الماكينة الإقتصادية الضعيفة من إمتصاص هذا الدين. وبما أن الدين العام إرتفع، إرتفعت معه خدمة الدين العام بشكل مباشر نتيجة إرتفاع حجم الأموال المُقترضة ولكن أيضًا بشكل غير مباشر نتيجة تراجع تصنيف لبنان الإئتماني مما زاد من الفوائد على الدين العام خصوصًا في الفترة الأخيرة.
ثالثًا- غياب محاربة الفساد الذي عبث بالمالية العامة وأدّى إلى تسجيل عجز مُزمن منذ إنتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا. هذا الفساد المحمي بالمحصاصة السياسية والمذهبية والطائفية أدّى إلى شلل مؤسسات الدولة وغياب الرقابة والأهم زيادة إنفاق المال العام.
إجراءات ضرورية
هذا الواقع يفرض على الحكومة العتيدة إجراءات ضرورية لتفادي هذه الأزمة الطاحنة كما وتفادي وصول الدين العام إلى مستوى الـ 200% والذي يُصنّف كمستوى اللا رجوع على صعيد فقدان الإنتظام المالي!
وتُعطينا التجارب في البلدان الأخرى عدداً من الأفكار التي يُمكن تطبيقها في مثل هذه الحالة – أي حالة الدول ذات المديونية العالية والمداخيل القليلة والفساد المُستشري:
أولا- البحث عن بديل للإقتراض: ينص هذا الإجراء على تفعيل الجباية من الضرائب ومُستحقات الدولة لدى المواطنين والشركات وهو ما يُشكّل تحدّياً في بلد يعمّه الفساد على صعيد التهرّب الضريبي والمُقدّر بحدود الـ 7.2% من الناتج المحلّي الإجمالي! ولكن التحدّي المُستجدّ في حالة لبنان هو ضعف النشاط الإقتصادي وبالتالي إنخفاض طبيعي في المداخيل الضريبية. إلا أن هناك إمكانية أخرى تتمثّل بفرض ضرائب ورسوم على الموارد غير المُستخدمة في الماكينة الإقتصادية والتي يصل عددها إلى العشرات في لبنان نذكر منها الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد حيث يجب رفع رسم الإشغال فيها إلى مستويات تعكس الواقع على الأرض.
ثانيًا- تحسين إدارة الإقتراض: تُصنّف الدراسات العالمية البلدان ذات الدخل المُنخفض على أنها بلدان ذات إدارة ديون ضعيفة. وتنّصح هذه الدراسات باللجوء إلى المؤسسات الدولية بهدف الإستفادة من خبرتها وتعظيم الإستفادة من الدين من دون الإنجرار وراء الإستدانة اللا محدودة والتي تُسبب شللاً إقتصاديًا وماليًا للدولة المعنية.
ثالثًا- زيادة المساءلة لتحسين سلوك المقترضين والمقرضين: على هذا الصعيد تنصح الدراسات بزيادة الشفافية على الدين العام وخصوصًا إظهار الديون الخفية مثل الإلتزامات الطارئة والتي عادة لا تظهر إلا عند وصول البلد إلى إعادة هيكلة ديونه وتكون على شكل قنبلة تنفجر في اللحظة الأخيرة. ومن بين النصائح التي تُعطيها هذه الدرسات زيادة المساءلة على تنفيذ الموازنات ومُعاقبة المخالفين إن بواسطة القضاء أو بواسطة الإنتخابات.
ومن بين الإجراءات الواجب إتخاذها، إظهار سجلات الدائن والمدين مما يسمح للمواطنين بالإطلاع عليها والحكم على أداء السلطة السياسية وخصوصًا المجلس النيابي المُنتخب مباشرة من الشعب. وهنا يُطرح سؤال جوهري: هل يمتلك كل أعضاء المجلس النيابي في لبنان التفاصيل الكاملة عن مُقرضي الدولة وتوزيع هذه القروض وهل قام بمساءلة الحكومة؟
رابعًا- وضع خطط لإدارة الصدمات والأزمات: بحسب هذه الدراسات، تكون البلدان ذات الدخل المنخفض عرضة لأزمات وصدمات نتيجة عدم الثبات السياسي والتدخلات الخارجية خصوصًا إذا ما كانت هذه البلدان تتمتّع بموارد طبيعية! وبالتالي فإن وضع خطة لإدارة الأزمات والصدمات تُشكل عنصراً مهماً لإمتصاص التداعيات السلبية لهذه الأزمات أو تفاديها بالكامل.
خامسًا- إعادة هيكلة الديون: هذا الخيار الذي تقترحه النظرية المالية يأتي كأخر خيار بعدما يتمّ إستنزاف كل الخيارات الأخرى. ويتميز هذا الخيار بحسناته على الآمد الطويل إذ أن الدولة التي فقدت السيطرة على دينها العام كما وعلى الإنتظام المالي، ستكون قادرة في المُستقبل على إستعادة الإنتظام المالي ودعم إقتصادها لسدّ هذا الدين. ولهذا الخيار أيضًا سيئات على المدى القصير من ناحية أنه يزيد من الإجراءات الإجتماعية الهادفة إلى خفض كل دعم إجتماعي ورفع الضرائب والرسوم وبالتالي ترتفع خلال الفترة الأولى نسبة الفقر والبطالة، لتعود وتتحسّن لاحقًا.
لبنان وإعادة هيكلة الدين العام
في لبنان وعلى الرغم من سوء الوضع المالي، فإن إعادة هيكلة الديون ليس بالضرورة الخيار الأول الذي يجب القيام به. فـ 84% من الدين العام هو دين داخلي موزّع بين المصارف التجارية ومصرف لبنان ومستثمرين أخرين. وبالتالي يُمكن تفادي إعادة هيكلة الدين العام من خلال تخلّي المقرضين الداخليين عن الفوائد لفترة سنة أو سنتين مما يسمح بتوفير ما يُقارب 5 مليار دولار أميركي سنويًا كفيلة بسدّ عجز الدولة والقيام بالإصلاحات اللازمة لإستعادة السيطرة على المالية العامة في غضون فترة قصيرة (لا تتعدّى السنة إلى سنتين). هذا الأمر مُبرّر بأن قسم كبير من هذا الدين يحمله المواطنون الذين هم أنفسهم من سيدّفعون ضرائب لسدّ الدين العام.
إلا أن لهذا الخيار تداعيات سلبية تتمثّل بالطريقة التي يُمكن أن تنظر إليه وكالات التصنيف الإئتماني والتي قدّ تعتبر أن هذا الإجراء هو تعثّر في السداد مما سيكون له تداعيات مُستقبلية سلبية على قدّرة لبنان على الإقتراض في الأسواق العالمية في المُستقبل.
في الختام لا يسعنا القول إلا أن إقتطاع أموال من الودائع أو خفض سعر صرف الليرة هي إجراءات مرفوضة نظرًا إلى أن هناك حلولاً أخرى لم يتم بحثها.
Views: 3