| فرنسا ـ فراس عزيز ديب
لم يكُن ينقُص هذا الشرق البائس إلا الزلازلَ والكوارث الطبيعية حتى يكتملَ مشوار الألم، وكأن ما عانيناهُ خلالَ العقدِ الأخير لم يكُن كافياً لحصد المزيد من الضحايا والدمار والخراب، والهزات الأرضية قد لا يشبهها إلا الهزات السياسية كيفَ لا ولكلٍّ منهما هزاتٌ ارتدادية قد تكون أقلَّ أو أكثر خطورة؟ لكن الأسوأ من هذا أو ذاك هو تجاهل الهزة الأساسية والتركيز على ارتداداتِها، ولعلَ أكثر ما ينطبق على هذهِ المقاربة الزلزالية هوَ الكلام الذي قالهُ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو قبلَ أيام خلالَ احتفالٍ خاص لجهازِ الشاباك: هدفنا التغلبَ على إيران كما تغلَّبنا على القوميةِ العربية.
مبدئيَّاً يحقُّ لنا أن نسألَ أينَ من يحملونَ الأيديولوجيا العروبية من هكذا تصريح؟ ربما كان من الأفضلِ لهم تركَ التحليلات المتكررة التي لا تنتهي والاستثمار بهكذا اعتراف مستندينَ إلى مسلّمتين، الأولى أن نتنياهو لم يتكلم عن «فِكر عروبي» بل «قومية عربية» وهذا يشمل حتى من يؤمنون بالعروبةِ كانتماء بعيداً عن أدلَجتها واستثمارها في الخطاباتِ والشعارات، النقطة الثانية أن العروبة بشكلٍ عام تبدو الآن في أزمةٍ حقيقية قد يشعر بها من يحترمها كفكرةٍ جامعة لمجتمعاتٍ متنوعة لكنهم حكماً خارجها كأيديولوجيا، أكثر مما قد يشعر بها أبناء جلدتها لأنهم لا يعترفون بهكذا أزمات، ولا حتى من يحملونَ أيديولوجيات مضادة لأنهم يتكلمون من خلفيةٍ انتهازية غير حيادية.
أن يعترفَ العدو بأن معركتهُ الأساسية كانت مع القومية العربية، فهذا يعني أن على من كان يرى بالراحلين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد مجردَ «مغامرين» أن يدرك اليوم بأنَّهما كانا فعلياً يوجهان البوصلة نحو العدو الحقيقي، فالتصريح يؤكد أن المشكلة مع العدو لم تكن يوماً مشكلةَ حدود بل وجودٍ وهوية، والأهم أن هكذا تصريحات تثبت بأن أحد أهم وسائل مجابهةِ العروبة كعدو كان منعَ هذه المنطقة من النهوض بأي شكلٍ من الأشكال حتى لو كانَ الثمن دخولها بالفوضى عبرَ استبدال العروبة بالمذهب، والضرب على فكرة أي التقاء «عربي – عربي» قد يكون نواة لإنجازٍ ما، هذا النهج الصهيوأميركي لم يتوقف، ولعلهُ بشكلٍ دائم يعطينا الكثيرَ من الأمثلةِ عنه، فما الجديد؟
في الأسبوع الماضي نقلت «الوطن» عن مصادرَ غربية في نيويورك مشاركةَ السفير السوري في الأمم المتحدة بشار الجعفري بحفلٍ خاص أقيم على شرفِ وزير الدولة السعودي فهد بن عبد اللـه المبارك، متحدثةً عن الأجواء الإيجابية للقاء، بالكاد انتشرَ هذا الخبر حتى باتَ مادةً دسمة للتحليلات والتأويلات، ولعل أغلبيتها العظمى استندت لفرضيةِ أن هذا الانفتاح السعودي السوري طارئ، لكنهُ واقعياً قد لا يبدو كذلك، بل هو فيما يبدو سياق متتابع من الوساطات قد يُفضي بالنهايةِ لما فيهِ مصلحةَ الجميع، أهمها الوقوف بوجهِ الأطماع التركية العابرة للدول والبحار العربية.
قد تبدو هذهِ الدعوة ردّاً استيعابياً للقاء الذي تمَّ في موسكو بين مسؤول الأمن الوطني علي مملوك ورئيس المخابرات التركية حاقان فيدان، تحديداً أن هذا اللقاء بدا تجسيداً لعدةِ لقاءاتٍ مماثلة على مستوياتٍ أقل بين السوريين والأتراك، هذا الأمر ربما قد لا يجد صدى إيجابياً لدى كل من الإمارات والسعودية لأنهما حكماً غيرَ سعداء بأي انفتاح سوري تركي قد يمهِّد لعودة العلاقات بين الدولتين.
لكنّ مشكلة من يحذو باتجاهِ هكذا مقاربة بأن يظن نفسه ملكياً أكثر من الملك ولم يسأل نفسهُ أساساً هل أن سورية ستقبل بهكذا انفتاح؟ الجواب يبدو بسيطاً، فالاجتماع تمَّ بحضورِ الوسيط الروسي ولم يخرج عن إطار النقاش الأمني الذي لا يمُت بصلةٍ لإعادة ترتيبِ علاقاتٍ أو ما شابه، تحديداً أن النظام التركي لايزال يحتل أراضي سورية ويدعم التنظيمات الإرهابية وطموحهُ لم يتوقف، ثم إن حقيقةَ ما جرى في الاجتماع لا تبدو بحاجةٍ لمعلوماتٍ خاصة لنتلقفها، إذ يكفي قراءةَ الكذب الذي مارسهُ إعلام «العدالة والتنمية» عن اتفاقٍ سوري تركي للعمل معاً ضد «ميليشيا وحدات حماية الشعب» وهو ما نفته سورية رسمياً، أو أن نقرأَ البيان الصادر عن وزارة الدفاع الروسية والذي يتحدث عن غدرِ الإرهابيين بقوات الجيش العربي السوري في ريف إدلب، لنعلم أن سورية لن تقعَ بفخ المجرم رجب طيب أردوغان.
من ناحيةٍ ثانية قد تبدو هذه الدعوة في سياق ما يسمونه «استعادة سورية من إيران» في حالِ حدوث مواجهةٍ ما في الخليج، وموضوعياً فإن المواجهة في الخليج تبدو أبعدَ من إمكانيةِ التقاءِ خطين متوازيين، كذلكَ الأمر فإن سورية التي اعترفَ لها العدو قبلَ الصديق بصحةِ خياراتها القومية لم تكن تتحدث يوماً عن العمق العربي من بابِ المزاودة، حتى بما يؤخذ عليها، كما يظن البعض، حول العلاقة مع إيران، ويتحدثون عن مسافةٍ شاسعة بين طريقةِ إدارة هذه العلاقة خلال مرحلة الراحل حافظ الأسد والتي كانت تسير بخطٍّ متوازنٍ مع العمق العربي دون أن تستفز أحداً وطريقةِ إدارتها في المرحلة التالية والتي فيما يبدو وكأنها ألغت البعد العروبي، فإنها لا تبدو نظرة قاصرة فحسب لكنها بعيدة عن الواقع لأننا حينها سنطرح سؤالين اثنين:
أولاً: هل أن سورية نعمَت بالأمنِ والأمان خلالَ فترةَ الراحل حافظ الأسد بسبب ما تسمونه «التوازن في العلاقة» أم إن التآمرَ عليها كان لا يتوقف؟ ربما أن الوضع يومها كان أسوأ من مجردِ خلخلةٍ في الأمن القومي العربي، لكن ما كان يجمّله وجود التوافق الثلاثي: مصر وسورية والسعودية.
ثانياً: من ينظر إلى المرحلة التالية كمرحلةِ ارتماءٍ لسورية في الحضنِ الإيراني، هل يمكن أن يعطينا مجردَ تصريحٍ قبلَ الربيع العربي فضَّلت فيه سورية توطيدَ العلاقةِ مع إيران على العمق العربي؟ لا يوجد، لكن هؤلاء فيما يبدو يمتلكون ذاكرةَ السمك ويتجاهلون بأن سورية لم تبدل نظرتها في توازن العلاقات مع الأصدقاء الإيرانيين أو الأشقاء العرب، لكن الذي تغير هو في مكانٍ آخر ونقطةَ بدايتهِ كانت أحداث الحادي عشر من أيلول عندما رفعت الولايات المتحدة راية الانتقام من الإرهاب، بما فيه «الإرهاب الذي يقاوم إسرائيل»، هنا بدأت نقطة الفصل، من هنا بدأَ يتشكل فراغ تجسدَ خيرَ ما تجسد في الحرب الإسرائيلية على لبنان عندما غسلَ الجميع يدهم من المقاومة وقالوا للرئيس بشار الأسد «اذهب أنت وربكما فقاتلا.. »، المسؤولية تتجسد هنا بمن تركَ هذا الفراغ وليس بمن سعى لملئهِ، وعلى الرغمِ من ذلك حملَ الرئيس بشار الأسد رايةَ العروبة ورفضَ تنكيسها، بل على العكس بقي وحيداً يدافع عنها في وجهِ أعدائها، ووجهِ من شيطنها عن قصدٍ أو غيرَ قصد، لأنه كان يثق بأنها حبل النجاة الأخير لهذهِ المنطقة.
إن سورية ببعدِها القومي الذي كانت تنفذه قولاً وفعلاً ولا تزال، لم يشهَد لها التاريخ أن تآمرت يوماً ما على هذا البعد، ولم تتدخل بشؤون أي دولةٍ لا عربية ولا غير عربية، على العكس هي قادرة أن تلعبَ دور صمام الأمان لمنع التوتر بين دول الخليج العربي، لكن هناك من لم يقتنع للأسف أن الجميع في النهاية هم في مركبٍ واحد، ولعل الواقعَ الذي يفرض نفسه في ظل ما تعانيهِ المنطقة من اضطرابات أن لجمَ من هم خلفَ أردوغان ومشاريعه يكون عبرَ لجمهِ في سورية لا مساعدته بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة عبرَ عناوينَ أثبتت كذبها، ألم يقل صراحةً بأنهُ يريدُ استعادةَ إرث دولة الإجرام العثمانية؟ أليست أرض الحجاز هي جزء من هذا الإرث؟
أما من لا يريد الاقتناع بأن التآمر الأميركي عليه لهُ أشكال متنوعة ولن يحميه في النهاية إلا السلام في عمقهُ الجيوسياسي، عليه أن يتساءل ببساطة: لماذا لم تخرج قضية التجسس على رجل الأعمال الأميركي ومؤسس موقع أمازون جيف بيزوس إلا بهذا الوقت؟ القضية ليست فقط بخروج القضية للعلن، القضية بهذا الضجيج الإعلامي حولها وربطها بأحداثٍ متشعبة من بينها مثلاً الوصول للصحفي جمال خاشقجي عبرَ هاتف جيف بيزوس، لدرجةٍ أن في الولايات المتحدة اليوم من يطالب باعتبار هذه القضية قضيةَ أمنٍ قومي. إن الهدف من كل ما يجري قد يكون أسوأ بكثيرٍ من مجردِ الإساءة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لكن هناك من يريد المكابرة والتجاهل، وأياً كانت المكابرة والتجاهل سيبقى العمق العروبي لسورية نظرية يصعب على الكثير فهمها.
ليس ذنب سورية أن الأمن القومي العربي سقط بدخول صدام حسين إلى الكويت، وليس ذنب سورية أنها امتلكت وسائل الصمود بجيشها وشعبها إلى أن وصلت لنقطةٍ اعترفَ لها عدوها الأول بأنه كان يريد تدميرها، الذنب هو ذنب من لا يزال يكابر ويتجاهل أن أبواب دمشق مفتوحة لما فيهِ مصلحةَ شعوبِ هذه المنطقة، وتذكروا بأننا نعيش زمنَ الهزات السياسية وارتداداتها.
الوطن
Views: 3