رفيقُ سهراتنا الحنونة، بئرٌ عميقة الأغوار، نُودِعُ عنده أحزانَنا في لحظات الخيبات، ونستشعر في رنينه المرِحِ أفراحاً نتمنّى أن تدوم كما يدوم صدى النغم في الكون. لا نحسّ بالاكتفاء منه إلا إذا أطربنا وأوصلنا إلى عتبة الانتشاء موسيقياً.
تقول الوثائقُ التاريخية والمخطوطات الأثرية إن أصوله تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد هناك في أرض الرافدين العظيمة وإنّ كل الأقوام المجاورة اقتبسوها فأصبحت جزءاً من تراثهم الذي يفاخرون به ويتنافسون على نسبه إليهم.
إنّه العود بكامل مهابته ورقّته التي تهزّ أوتار القلب وهو ما جعلنا نستحضر آراء بعض عشّاقه فبدأنا مع أحد «شيوخ كار» صناعة الأعواد في سورية أنطون الطويل (ابن الصانع العريق إبراهيم الطويل) الحرفيّ الذي أورثَ ابنته أيضاً مهنةً عشقتْها وأصبحتْ أوّل صبية تمتلك ورشتها الخاصة. واقتنى من أعواده كل من اللبناني شربل روحانا والسوري الياس كرم ووصلت منتجاته إلى كندا وإيطاليا وبريطانيا وها هو يحدّثنا ويستدعي الذكريات على مهله:
«منذ الخمسينيات وعيتُ على الحياة وأنا أرى آلة العود في بيتنا وفي ورشة والدي، بل كان العود فرداً من أفراد العائلة لا يمكن أن نتخيّل حياتنا من دونه. وبشفافية أقول هي مهنة أجني رزقي منها لكنني أعشقها وعندي شغف كبير تجاهها لدرجة أنني لا أصدّق أن يطلع النهار إلا وآتي إلى محلّي هنا في سوق المهن اليدوية لألمس الخشب وأشم رائحة الغراء وأكمل ما كنت أفكر فيه من زخرفيات أريد إضافتها إلى آلاتي لكن بالتأكيد مع المحافظة على هويته الأساسية. طبعاً القواعد الأساسية موجودة لكن الفروقات تكمن في بعض التفاصيل والزخارف وأي صانع يدوي لا يمكن أن ينتج عودين متطابقين مهما كان بارعاً في ذلك. أما معيار الجودة التي تشير إليها فسببُها نوعية خامة الخشب المستخدم ودرجة رطوبته وسماكته، إضافة إلى مهارة الحرفي/المهني/الصانع وسنيّ خبرته التي تجعله دقيقاً في تنفيذ ما يحلم به».
• وماذا عن الحرفيين السوريين؟
«للأسف، بسبب الحرب لم يعد موجوداً في دمشق أكثر من خمس ورشات لـعلي وياسين خليفة ومنصور حيدر ابن فؤاد حيدر ومنصور هريرة ومحمد السبسبي وورشة سما للأعواد، وهناك في مدينة سلمية وإبراهيم سكّر في حلب. وأيّ مهنة لا تلقى دعماً مطلوباً من حيث توفير موادها الأساسية ودعوة أصحابها إلى المعارض المحليّة والعالمية ودعمهم في تسويق المنتج يمكن عندها أن تتعرض لمخاطر الزوال. اليوم نرى أن دخول الآلة والليزر إلى صناعة العود لم تجعله أجود أو أفضل أو أكثر ديمومة إنما سرّعت من إنجاز القطعة المطلوبة. أتمنى أن تعود هذه المهنة العريقة والجميلة إلى ألقها مع عودة السيّاح العرب والأجانب والأهم مع عودة أصحابها الحرفيين إلى بلدهم وورشهم».
أما المايسترو عدنان فتح الله قائد فرقة الموسيقا العربية فيجيبنا عن سؤالنا:
• هل تمتلك آلة العود تنوّعاً صوتياً يمكّنها من الوجود كجزء أساس في أوركسترات السيمفوني؟ ولماذا لا نراها مع السيمفوني إلا فيما ندر؟
يقول: «تمتلك آلة العود تنوعاً صوتياً مذهلاً فهي آلة مطواعة يمكن أن نعزف عليها جميع أنماط الموسيقا.. خاصة بعد دخول أنماط موسيقية جديدة إلى المعهد العالي للموسيقا هنا في دمشق، فمناهج العود عندنا أصبحت تهتم أكثر بمؤلفين عالميين مثل فيفالدي وباخ وموتسارت وغيرهم. وأعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عن آلة العود لأنها تمتلك صوتاً يسمى (آلتو) وهو نوع من الأصوات المتوسطة في التخت الشرقي يربط بين القانون كآلة حادة الصوت وآلات لها أصوات خفيضة. هي آلة تغلّف الأصوات الحادّة التي لا يمكن الاستماع لها مدّةً طويلة وتالياً تعطي المستمع راحة ودفئاً ضروريين. أمّا فيما يخص الأوركسترات الكلاسيكية أو السيمفوني فنجد أن حضور العود قليل بسبب قلة المؤلفات الموسيقية التي تُكتب خصيصاً للعود بمصاحبة بقية الآلات وأعتقد أن هناك مقطوعة وحيدة اسمها «كونشيرتو العود» كُتبت خصيصاً لهذه الآلة وهي من مؤلفات الموسيقي الرائع «نوري اسكندر». وعنّي شخصياً كان لي الشرف أنني عزفت مع الفرقة الوطنية السيمفونية حواريةً للعود باسم (هكذا كانت)».
• ومَنْ تعتقد من العازفين أو الملحنين استطاع أن ينقل مؤلفات العود إلى آفاق عالمية ومساحات جديدة غير محصورة في النمط الشرقي إن صح التعبير؟
«من المؤلفين والعازفين هناك الشريف محي الدين حيدر وجميل بشير ومنير بشير هؤلاء صنعوا منهجيات مختلفة سواء في أسلوب تنقّل الريشة على الأوتار أو في التأليف والقوالب والبناء الموسيقي مثل مقطوعة «كابريس» لجميل. هناك من يقول إنه لا يمكن لآلة العود أن توجد بشكل دائم في الأوركسترات السيمفوني لأنها آلة إفراديّة تتمتع بحضورها الطاغي كآلة «سولو». لكن في رأيي أن المساحات الصوتية للعود أو «ريجيستر العود» كبيرٌ لدرجة أنه بتنا اليوم نرى فِرقاً تسمى «ثلاثي العود» أو «رباعي العود» وحتى «أوركسترا العود» مع التنوع في الخطوط اللحنية بمصاحبة آلات السوبرانو والباص… وهذا أيضاً مرة أخرى دليل على عظمة الآلة وتنوعها وقدرتها على الاستمرارية».
إشارة المايسترو فتح الله إلى مسألة الاستمرارية أخذت بي نحو الناقد جمال عوّاد (وهو أيضاً من العازفين المتمرّسين على العود) لأطرح عليه تساؤلي الآتي:
• هل من المحتمل ولو من باب الفرضية أن «تنقرض» آلة مثل العود مع المنافسة الشرسة لما يسمّى آلة «الأورغ» أو مع انتشار ما يدعى ـ«الموسيقا الإلكترونية» واستخدام الكمبيوتر في التلحين؟
فيقول ويُثرينا برأيه: «إنّ تحدّي الانقراض واردٌ بشكل منطقي لأي آلة موسيقية غير إلكترونية، وذلك في مواجهة التقنيات الإلكترونية التي تحاول أن تستبدل الآلة والعازف كما حدث في تطور الآلات الصناعية التي استغنت شيئاً فشيئاً عن العامل البشري وصولاً إلى أقل عدد ممكن. والسبب الجوهري لذلك هو تأثير العولمة، فآلة العود أو الجيتار الكلاسيكي أو الكمان أو البزق أو أي آلة موسيقية غير الكترونية… هي تعبيرٌ مباشر عن الهوية الثقافية أو القومية لمجموعة بشرية معينة وتالياً، تصبح هدفاً للعولمة التي تسعى لمحو الهويات الثقافية والتنوع في العالم. وتتفرع عن هذا السبب أسبابٌ أخرى تفصيلية هي أولاً: الإقلال من العنصر البشري في صناعة الموسيقا كما حدث في النهضة التقنية الصناعية التي استغنت عن مقدار هائل من اليد العاملة. ثانياً: التوجه نحو احتكار تقنيات صناعة الموسيقا وبرمجياتها كما يحدث في أي تطور تقني في أي مجال آخر.. ولكني بشكل عام متفائلٌ بفشل العولمة في القضاء على الهوية الفردية والقومية والثقافية، برغم نجاحها جزئياً في الفترة الحالية، وسبب تفاؤلي هو قوّة الفطرة الإنسانية وقدرتها على الاستمرار وتالياً، فإن آلة العود وغيرها من الآلات ذات الهوية الثقافية ستقاوم وتستمر بعد انحسار وستتطور ضمن منحى طبيعي كما حدث منذ اختراعها حتى الآن».
Views: 5