قليلة وربما نادرة، هي الأوطان التي تواجه حرباً عدوانية كونية كالتي واجهتها سورية وما زالت على مدى السنوات التسع الماضية، وتخرج منتصرة وعلى طريق التحرير الكامل لأراضيها من الجيوش والعصابات الإرهابية المحتلة.
لاشك أن التضحيات كبيرة وكبيرة جداً، لكن البدائل التي كانت ستفرضها هذه الحرب والتي اختبر كثيراً منها الشعب السوري خلال تلك السنوات، صنعت من هذه التضحيات تحدياً أسس لكل الانتصارات التي تتالت والتي يكاد يكتمل عنقودها الشمالي في إدلب.
لم تكن سورية لتتلمس طريق الخروج منتصرةً من هذه الحرب العدوانية عليها، لولا حكمة قيادتها السياسية وصمودها وشجاعة جيشها العربي المقاوم واحتضان أغلبية شعبها لهذه القيادة والجيش وللقوى الأمنية الأخرى، ولولا وفاء حلفائها في محور المقاومة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى حزب اللـه مروراً بالفصائل العراقية وغيرها، وأيضاً لولا تقدم الشريك الإستراتيجي روسيا ساحات المواجهة السياسية والعسكرية إلى جانب سوريةكثيرون من الأشقاء المفترضين تآمروا، وآخرون جلسوا على التل ينتظرون جلاء غبار المعركة آملين أن يجدوا لأنفسهم مكاناً إلى جانب المنتصر، أما الأوفياء فقد آمنوا منذ بداية هذه الحرب أن ما يجمعهم مع سورية من مصير مشترك ومن إيمان راسخ سيقود إلى نصر محتّم وفقاً لرؤية متكاملة لشروط المواجهة وآلياتها.
اليوم وبعد تحرير حلب من خطر استهداف العصابات الإرهابية لها قصفاً وقتلاً وتدميراً، يكتسب هذا التحرير معنىً خاصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية الضاغطة الناتجة عن الحصار والعقوبات التي تفرضها الحكومات الأميركية والأوروبية وكذلك العربية، وأيضاً بسبب التكلفة العالية للحرب العدوانية التي غيرت سُلم ترتيب الأولويات بالنسبة للدولة حيث وضعت مسألة تأمين الحاجات الأساسية للشعب السوري على رأس هذا السلم، إلى جانب مشروع إعادة استنهاض القوة الإنتاجية والإعمارية لهذا الشعب بقدرات ذاتية، وهو تحدٍ يتضاعف مع كل تحرير جديد لأراضي سورية يوازي تحدي إخراج القوى الأجنبية المحتلة لتلك الأراضي.على هذا الأساس، من المنتظر أن تستعيد حلب كعاصمة سورية الاقتصادية، في وقت ليس ببعيد، مشاركتها المتقدمة في إعادة تحريك العجلة الصناعية والتجارية التي سيكون لها الأثر الإيجابي البالغ في تحصين الداخل السوري في مواجهة الضغوطات الاقتصادية والمالية الخارجية وخصوصاً منها الأميركية لخنق دول وقوى محور المقاومة.
في موازاة ذلك، تبقى مسألة تحرير إدلب تتقدم على ما عداها مما تبقى من الأراضي السورية المحتلة، انطلاقاً من اعتبار أن إخراج العامل التركي من معادلة المواجهة ضد الإرهاب صار ضرورة ضاغطة لسببين أساسيين، الأول: سياسي لأن رئيس النظام التركي رجب أردوغان كان وما زال يحاول أن يبيع «بضاعة» توغل قوات بلاده في الأراضي السورية لأكثر من مرجعية سياسية دولية، اعتقاداً منه أن الوقت يضيق وأن مساحة المناورة السياسية مع الروسي تقلصت إلى حد كبير، ومن ثم لابد من استدراج بديل كالولايات المتحدة الأميركية وحدها أو شركائها في حلف «الناتو» ليساندوه ويحموا عبثه في الداخل السوري. الثاني: عسكري على اعتبار أن الانهيار المتسارع للعصابات الإرهابية وتراجعها إلى مناطق الحدود مع تركيا، كشف قوات الاحتلال التركية أمام الجيش العربي السوري ووضعها في موقع المُحاصَرة والمُدافِعة عن نقاط انتشارها، ومن ثم هي فرصة لإسقاط مسعى أردوغان وأركان نظامه إضفاء أي شرعية على هذا الاحتلال من خلال إدعاء المساهمة في معالجة الأوضاع الشاذة في إدلب ومحيطها وفقاً لتفاهمات أستانا وسوتشي.
المفارقة أن أردوغان يهدد ويتوعد ويطالب بعودة الجيش العربي السوري إلى مواقعه التي انطلق منها قبيل حملته الأخيرة، وكأن هذا الجيش هو الذي يقاتل لاحتلال أرض غيره وأن قواته المحتلة وأدواتها الإرهابية هي صاحبة الأرض.
صَلَفُ أردوغان لا يوازيه سوى صَلَف قادة كيان العدو الإسرائيلي الذين يعتبرون حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه واستعادتها اعتداء على كيانهم.
بعد تحرير حلب المدينة قال الرئيس بشار الأسد: «ما بعد تحرير حلب ليس كما قبله»، ومن المؤكد أن ما بعد تحرير إدلب ليس كما قبله، بل هو سيشكل تحولاً إستراتيجياً في مسار استكمال انتصار سورية واستعادتها لحضورها القومي المقاوم ولدورها في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية، وخصوصاً في حال كان خروج القوات الأميركية المحتلة من العراق وسورية سريعاً.
الوطن
Views: 4