من المبكر استكشاف التحوّلات الاقتصادية والجيوسياسية بعد جائحة كورونا، وهي آتية لا محالة على جميع الأصعدة والأنشطة. لكن الجائحة تكشف عالم التوحّش تحت قيادة الإدارة الأميركية، وتعرّي مخاطره التي تهدّد حياة الأرض والجنس البشري.
هذا الانقلاب الذي غيّر الحدّ الأدنى من النُظم والمعايير الإنسانية في العالم وأدّى تفاقمه إلى حكم إدارة ترامب، معرّض للتغيير
لم يتسنَّ المجال بعد لقراءة أبعاد الجائحة العالمية التي كشفت عالم التوحّش وهشاشة قدرته على حفظ البقاء. فتحت تهديد الخطر الداهم الذي يهدّد الانسانية، تنصرف الأنظار إلى الوقاية والعزلة والمشاغل اليومية أملاً بغد جديد. ومن ناحية أخرى لم تتبيّن بعد أعماق جبل الجليد ولا حتى قمته. لكن ما بات شبه مؤكد أن الكساد العالمي يتجاوز أزمة الرهن العقاري وأزمة انهيار بنك ليمان براذر العام 2008 في أميركا وما تركته من آثار سوداوية على الاقتصاد العالمي وعلى حياة البشر طيلة أكثر من عقد كامل. فتباشير الكساد والانهيار اليوم تقترب من أزمة الكساد العظيم ابتداء من عام 1929، ما أدّى إلى تغيير وجه أميركا والعالم العام 1932 إلى دولة تدخّلية أقرب إلى الاشتراكية في إدارة الاقتصاد حتى الانقلاب الكبير في أميركا. على هذا الصعيد قاد الاقتصادي توماس فريدمان مع ريغان إحياء مقولة “دعه يعمل دعه يمرّ” بدءَ من قصر الحاكم العسكري الجنرال بينوشيه الذي أطاح بحكومة أللندي في تشيلي، وبالتوازي مع مارغريت تاتشر التي قادت الانقلاب في أوروبا الشرقية ثم في المؤسسات الدولية بحسب مقولة أستاذها إيفون هايك ومدرسة شيكاغو التي أنتجت الرأسمالية النيوليبرالية والمحافظين الجدد.
هذا الانقلاب الذي غيّر الحدّ الأدنى من النُظم والمعايير الإنسانية في العالم وأدّى تفاقمه إلى حكم إدارة ترامب، معرّض للتغيير بشكل شبه حتمي بعد أن يكشف كورونا عن جبل الجليد وعن إرث الإدارة الأميركية والحكومات الغربية المأساوي. لكن ارتجاجات هذا الإرث تشعر به أميركا التي تعبّر عنها بعض المقالات والتعليقات في صحف ومجلات أميركية ليبرالية ونيوليبرالية كصحيفة واشنطن بوست ونيويورك تايمز وكمجلات من صميم الإدارة والاستخبارت مثل فورين أفيرز وفورين بوليسي التي تجزم بأن كورونا” سيؤدي إلى تحوّلات دائمة في موازين القوى السياسية والاقتصادية الدولية بطرق وأشكال تظهر لاحقاً”. بينما يعتقد بعض الفرنسيين ومنهم أستاذ الفلسفة ميشال أونفريه أن تعامل الحكومة الفرنسية مع الجائحة “مؤشّر على انهيار أوروبا والحضارة المسيحية ــ اليهودية”. فمقولة الحضارة المسيحية ــ اليهودية هي مقولة طارئة لكنها أصبحت مسلّمة “فلسفية” منذ أواخر عهد فرنسوا ميتران والانفتاح الأوروبي على النموذج الأميركي وعلى “حضارة اسرائيل التوراتية”.
ما تكشف عنه الجائحة اليوم من التباشير التي تُنذر بتحوّلات كبيرة، هو الهوّة الواسعة بين نموذجين في التعامل مع المخاطر التي تهدّد البشرية. أحدهما خطاب الرئيس الأميركي السياسي الذي يرى التهديد العالمي غريباً على أميركا خصوصاً تحت حمايته الشخصية، ذا طبيعة عرقية ودينية وقومية أدنى من العرق الأبيض. لذا وهو الذي يعيّر علماء الايكولوجيا بوصفهم “أنبياء الشؤوم” بشأن تغيّر المناخ، لا يستشعر الزلزال فوق رأس أميركا. ولا يزال يقول أنه لن يدع المشكلة الصحيّة تتحوّل إلى مشكلة اقتصادية، استناداً إلى قدرته على طباعة بين ألفي مليار دولار وأربعة آلاف لدعم الشركات الكبرى والأسهم وصناعة السلاح كما فعل أوبام في العام 2008. ولا يبالي لأزمة انهيار النظام الصحّي وحرمان ثمانين مليون أميركي من الاستشفاء فضلاً عن تهديد أربعين مليون في آخر الشهر من اضطرارهم على إخلاء منازلهم بسبب عدم التسديد. وهذا النموذج نفسه يتقارب بأشكال مختلفة مع ترامب في فرنسا والدول الأوروبية الأخرى التي أطاحت بنظام الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الأخرى وبالحقوق الانسانية في تبنّيها النموذج الأميركي الذي أدّى إلى إفلاس الدولة لمصلحة أصحاب الشركات والرساميل الكبرى.
النموذج الآخر النقيض هو خطاب السيد حسن نصر الله السياسي الذى يرى تهديد الجائحة، هو تهديد للكون والعنصر البشري بعيداً عن الانتماء القومي والديني والعرقي. ولدفع هذا التهديد لا بدّ من المقاومة والدفاع في خوض حرب ضد الوباء والتضامن الاجتماعي والصحي على مستوى البشرية جمعاء، واتخاذ هذه المقاومة من أجل حق البقاء أولوية الأولويات ووقف الحصار والعقوبات ووقف الحروب كما دعا مؤخراً أمين عام الأمم المتحدة. وبحسب هذا النموذج الأكثر تعبيراً في خطاب السيد نصر الله، تعاملت الصين وروسيا وإيران وكوبا في الدفاع عن الانسانية ومكافحة الجائحة. لكنها حرصت على التضامن الاجتماعي بموازاة التضامن الصحي، في الاهتمام بحياة الناس والمتضررين فوق الاهتمام بالمال والأعمال.
التناقض البيّن بين نموذج التوحّش والنموذج الانساني، يترك آثاره بين الناس في أوروبا على صورة جمرة تحت الرماد بانتظار جلاء الجائحة. ففي فرنسا على سبيل المثال يخرج الناس على الشرفات يومياً لقرع الطناجر ولتحية الطواقم الصحية والمساعدات الانسانية. وفي هذا الوقت يعمل تجمّع الأطباء على مقاضاة وزير الصحة أوليفييه فيران والوزراء السابقين أمام المحكمة الدستورية العليا بتهمة سوء الإدارة التي أدّت إلى انهيار الرعاية الصحية. وهي تهمة تتصل بسياسة فرنسوا هولاند الذي حرم ميزانية المستشفيات الحكومية من 600 مليون يورو، بينما حرمها ماكرون من 900 مليون يورو وتركها لمصيرها المحتوم أملاً بتشجيع شركات القطاع الخاص.
أوّل الغيث وقت العزلة والوقاية قطرة، لكن قصر الكرتون يتهاوى إذا هبّت الرياح.
المصدر : الميادين نت
Views: 5