في تشخيصه لحالة الكآبة التي تُفعم بها القصيدة العربية المعاصرة، يراها الشاعر محمد عُضيمة، بهذا اللهاث وراء شعرية اللامرئي، أو الميتافيزيقي، التي توحي أنها تفتح آفاقاً لا حدود لها للقارئ العربي، والشاعر بفعل الحشو الزائد، وتحويل القصيدة إلى بحث في الجغرافيا، التاريخ، الفلسفة، و..الأساطير، لكنها وبهذا تحديداً تقوده في اتجاهٍ واحد: الكآبة، القنوط، لذلك سوف لن تجدوا ابتسامة على ملامح أي شاعر من شعرائنا المعاصرين، بل ستجدون جديةً عابسة..!
الشعراء الملعونون
لكن هل هذه الجدية العابسة، قد تودي بالشاعر، إلى أن يضع حداً لحياته.؟!! قد تكون الانطولوجيا التي أنجزتها الشاعرة اللبنانية جمانة حداد 2007م حول الشعراء الذين أقدموا على سفك دمائهم، بعد أن جفّ حبر أقلامهم، الأولى من نوعها في العالم العربي، و.. ربما لم يسبقها في هذا المجال سوى كتاب “الشعراء الملعونين “الذي أصدره بول فاليري عام 1884م، فقد أحصت الشاعرة حداد “مئة وخمسون” شاعراً انتحروا في القرن العشرين، من بينهم خمسة عشر شاعراً وشاعرة من العالم العربي، منهم: خليل حاوي، أمل جنبلاط، منير رمزي (مصر).. عبد الباسط الصوفي، عبد الرحيم أبو ذكرى (سورية).. أنطون مشحور (لبنان ).. تيسير سبول (الأردن)، صفية كتو (الجزائر)…. وآخرون وهو الكتاب الأول الذي جمع شعراء انتموا إلى مناطق جغرافية مختلفة ومدارس وأجيال شعرية وتيارات متنوعة، إلا أن جواً وجودياً جمعهم، فكان الموت أو صفته.
غير أن ثمة الكثير من الأسباب، غير التشخيص الذي حذّر منه الشاعر عُضيمة، وراء وضع حد النهاية لحياة الكاتب، و.. هذه الظاهرة تكاد تكون خاصة بالشعراء في العالم العربي، فيما هي في اليابان على سبيل المثال، تكاد تكون خاصة بالروائيين، فماذا لو لم تسلس الكتابة للشاعر، ليسفح مداده؟؟! هل يقدم على الانتحار مثلاً؟؟!
فقدان الجدوى
إذا كان قدر البشر العاديين أن يواجهوا بمرارة التحدي الذي يفرضه الموت على كل منهم، فإن الشعراء والمبدعين بصورة عامة يواجهون تحديين اثنين في وقت واحد: الموت الجسدي والموت الإبداعي، و.. قد يكون الموت الأول هو الأكثر ضراوة بالنسبة إلى سائر الناس باعتباره يضع حداً للحضور الإنساني بأكمله، ولكن التوقف عن الكتابة والعطاء الإبداعي بالنسبة للمبدع لا يقل إيلاما عن توقف الحياة نفسها. لا بل إنه من بعض وجوهه، يبدو الأكثر صعوبة والأكثر مدعاة لليأس والرعب، فالموت يأتي دفعة واحدة، و يحل بعدها السكون المطبق والعدم.. إنه السكينة التي لا يرافقها ألم، ولا يصطحبها توتر أو عذابات.. في حين أن الألم الذي يصحب العقم الإبداعي يدفع صاحبها إلى الشعور بالاضمحلال والموت وفقدان الجدوى، إضافة إلى شعور بالسخط والتبرم والعدوانية المفرطة.!!
إن الكاتب الذي يكف عن الكتابة، يشعر فجأة بأنه فقد سلاحه الأمضى في وجه العجز والموت، فالكتابة في جوهرها تحايل على الموت. إنها نوع من اللقاح الذي يُحصّن الروح ضد جرثومة الزوال، ويمنح الجسد مناعة أقوى في وجه الرياح العاتية للغياب والتلاشي، وحين يفقدها الكاتب، يفقد معها إحساسه بالثقة والتوازن بقدر ما يفقد جوهر وجوده بالذات، إن وضعه من هذه الزاوية أكثر مأساوية وخطورة من وضع الإنسان العادي الذي يكيّف نفسه في الأصل مع فكرة الموت، ويتقبل الحقائق الكونية الثابتة برضا واستسلام كاملين، في حين أن الكاتب المهدد بالأصل بالمخاوف والشكوك يجد فجأة أن حصانته المتوهمة قد انتزعت منه وأنه لم يعد يملك أي امتياز في مواجهة مصيره العاصف وغربته الموحشة.!
و.. إذا كان التوقف عن الكتابة ليس السبب الوحيد لانتحار خليل حاوي في ثمانينات القرن الماضي، إلا أنه كان أحد الأسباب الرئيسية التي أوقفت مشاعر الانبعاث القومي المجهض أمامه، فحاوي الذي أعطى في قصيدته الرائدة “إلعازر1962م” أحد أجمل نماذج الحداثة الشعرية العربية، وجد نفسه بعد سنتين من القصيدة تلك شبيهاً ببئر فارغة لا تعول فيها سوى رياح الخرس، وحين أصدر في مطلع السبعينات مجموعتيه الأخيرتين “الرعد الجريح” و من جحيم الكوميديا “بدا شعره بلا عصب، ولا حيوية وبدت عودته إلى الكتابة شبيهة بعودة ” إليعازر” الباردة من الموت حتى إذا ما أضيفت إلى خيانة الشعر خيانات أخرى في حياة حاوي الذي لم يجد مخرجاً من عذاباته المُبرحة سوى رصاصة وحيدة في صدغ الرأس..!
أكثر ضراوة
قد تكون المشكلة لدى الشعراء أكثر ضراوة، وهولاً، مما هي عليه لدى الروائيين، وغيرهم من المشتغلين بالكتابة، ذلك أن الزمن الروائي لا يرتبط بحقبة بعينها من العمر، بل هو يشتعل، ويتوقد مع فترات النضج والتقدم في السن، و.. الرواية تتغذى من الذاكرة، و الإستعاري، وهي تالياً تحتاج إلى الكثير من الخبرات والتجارب والعقود المتراكمة، لذا نجد أن أفضل ما ينتجه الروائيون في الغالب عدا استثناءات قليلة يتم بعد الأربعين، وفي متوسط العمر، وما يليه من مراحل، في حين أن الشعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدورة الدم ونبض القلب وحرارتهما الداخلية وتوتر الجسد، إنه تعبير انفجاري متدفق وناري، وهو يعتمد تالياً على النضارة والحيوية الجسديين، إضافة إلى نضارة الروح وحماستها الداخلية.
و.. لأنّ الزمن الشعري زمن ناري بامتياز؛ فهو ينقلب بسرعة رماداً شأنه شأن كل ما يشتعل، لهذا لن نحس بالغرابة حين نجد شاعراً كبيرا مثل رامبو يتوقف عن الكتابة في مطلع العشرينات، أو شاعراً كخليل حاوي يصمت في أول أربعيناته، في حين أن الكثيرين ممن أصروا على المتابعة بمكابرة لافتة، لم يفعلوا شيئا يذكر بعض منتصف العمر سوى تكرار ما كتبوه من قبل وبشكلٍ رتيب، و.. باهت، وإذا كان بعض الشعراء، وهم قلائل يزدادون توهجاً ونضجاً وحيوية مع الزمن، فإن حال الكثرة الغالبة ليست كذلك على الإطلاق.
مع ذلك، الكتابة عن الموت أو في ظل الموت ليست كتابة، إنها محاولة لاسترجاع عناصر الذاكرة المدفونة في أعماقنا، لذلك يفاجئنا الشاعر حين يموت يخرج من أعماق ذاكرتنا و.. يتحدانا.!
موت الشاعر ليس شيئاً، فالقارئ لا يعنيه هذا الموت، وهنا المفارقة التي تصيب الأدباء والشعراء بالهلع، فاللحظة التي يكتب فيها المؤلف اسمه على غلاف كتابه هي لحظة الموت الحقيقية، يصبح الاسم أسماً، ويتجرد من دلالاته الملموسة، ويدخل في حوار مع الأحياء والموتى، لذلك لا يموت الكاتب حين يموت أي عندما تضع الحياة حدّاً لسنوات عمره، و.. إنما يموت قبل ذلك بزمن طويل، وتصبح حياته الشخصية مجرد هامش صغير في كتابه.
مفاجأة الموت أسمها الذاكرة، فجأة يمرّ عمرنا الأدبي أمامنا كشريط من الصور المتلاحقة و المتقاطعة، و.. تناقضات حياتنا وذاكرتنا والتباساتهما..!!
Views: 2