قد يكون الحدث الأهم في الحرب السورية هو تحول الخطاب وميزان الاستقطاب فيها من مقولات “ثورة” في مواجهة “نظام”، و”مجتمع” في مواجهة “دولة”، إلى قراءة الحدث بوصفه صراعاً على الرهانات والمصالح، واحتواء واحتواء متبادلاً بين عدد كبير من الفواعل في الداخل والخارج.
هذا من الأمور المستقرة تقريباً في تقديرات الحرب، وهو بقدر ما يوضح ما جرى منذ بداية الحرب، فإنه يجعل التفكير في المستقبل أو في سورية ما بعد الحرب أمراً بالغ التشابك والتعقيد، وربما أقرب للاستحالة!
حدثت في سوريا كلّ الأهوال الممكنة للحروب، دمار طال كل شيء في الظاهرة السورية اليوم. وكشفت التطورات أن جانباً كبيراً من الصراع المحتدم اليوم هدفه “اغتنام سورية” ككلّ، أو اغتنام الحصة الأكبر منها، أو ما أمكن من حصة.
ويمكن الحديث بعد عشر سنوات من الحرب عن “شرايين سورية المفتوحة”، بتعبير مستعار من عنوان كتاب للروائي إدواردو غاليانو يتحدث فيه عن “شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة”، كما يمكن الحديث عن حرب هي نوع من “التدمير الممنهج”، بتعبير مستعار من عنوان كتاب للإعلامي سامي كليب، عن الحرب السورية.
وهكذا، حولت الحربُ سوريةَ إلى بلد “لا داخل له” و”لا خارج”! حالة من الاستنزاف الدائم والمهول للموارد المادية والمعنوية، ولفكرة سورية، ولأفق سورية، وهذا ليس من باب الهدر أو الإهدار أو التدمير فحسب، وإنما من باب الغنيمة أو الاغتنام أيضاً!
وعندما يمثل “الصراعُ على سورية” منطلقاً للصراع على الإقليم، فهذا يعني أن “اغتنام سورية” هو شرط شارط لـ”اغتنام” الإقليم، بكل التداعيات أو المنعكسات القائمة والمحتملة لذلك على الصراع في العالم اليوم.
وقد أخذ منطق الاغتنام أو الغنيمة هذا يظهر بشكل متزايد في الحرب السورية، بل انه يكاد يظلل الحدث السوري ككل، وذلك على عدة مستويات:
– الحلفاء –الخصوم، وقد أصبحت سورية ساحة حرب أو جبهة مواجهة بين خطي صدع أو خطي استقطاب في السياسة الإقليمية والدولية، وخاصة روسيا والولايات المتحدة. والهدف هو “اغتنامها”، كما تتكرر الإشارة.
– بين الحلفاء أنفسهم، ولا يخفى حجم التوتر والمنافسة بين روسيا وإيران في ديناميات الحرب السورية. وهذا ما أخذ يلقي بظلال من الشك على “صلابة” و”استمرارية” التحالف المؤيد لسورية.
– بين الخصوم أنفسهم، وقد أخذت الصدوع والتوترات تباعد بين فواعل التحالف المعادي لدمشق، انظر مثلاً التوترات بين تركيا من جهة وبين السعودية والإمارات من جهة أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة للتوتر بين عدد من دول الخليج العربية أو ما يعرف بالأزمة الخليجية بين السعودية والبحرين والإمارات من جهة وقطر من جهة ثانية.
– المعارضة، وحالة الاقتتال الدائمة بين تنظيماتها وعصائبها، في صراع محموم على “أغتنام” الموارد المادية والمعنوية في الداخل، والتدفقات من الخارج.
– الموالاة، بالاستناد إلى مؤشرات حول منافسات وتجاذبات متزايدة على الموارد وعلى جوانب من إدارة الشأن العام. وان الفساد المتجذر والمُعند في المجتمع والدولة يجعل من كل شيء تقريباً “غنيمة”.
والآن، وبعد أن اقتربت العشرية الأولى للحرب من النهاية، تبدو سورية ساحة معارك متداخلة ومتوازية بين فواعل إقليمية ودولية عديدة، مثلما هو الحال بين فواعل داخلية أيضاً، ما يعني أن المعركة الأهم أمام السوريين الوطنيين، الذين قلبهم على البلد، هي معركة “اغتنام سورية”، إنما بمعنى مختلف، وأفضل “اغتنام” لسورية هو استعادة “روح المجتمع” و”روح الدولة” فيها،
وما أبعد الشقة!
الكاتب
د.عقيل سعيد محفوض باحث وكاتب متخصص بالشؤون التركية والشرق أوسطية استاذ جامعي
Views: 5