وَصَلَت لعبة “الطاقة” إلى خواتيمها الحزينة. عشرات الدراسات والخطط (ثلاث منها في آخر 10 سنوات)، مئات المؤتمرات الصحافية وآلاف الوعود لم تُنتج إلا مزيداً من العتمة. الظلام الذي تغرق فيه مختلف المناطق اللبنانية وصل إلى بيروت الإدارية، حيث تخطت مدة التقنين العشر ساعات. وبدلاً من الالتفات إلى جرس الانذار الاخير الذي تقرعة أزمة الكهرباء، ها هي وزارة الطاقة تضرب بعرض الحائط أبسط قواعد الحوكمة وتتخطى كل المعايير الادارية والفنية في إصلاح القطاع، منذرة بالعتمة الشاملة.
مشهد تهافت اللبنانيين على شراء “قناديل” الكاز، التي فاق سعر الواحد منها 90 الف ليرة، والتزود بالشمع والكبريت، خير دليل على مأسوية ما ينتظرنا في المستقبل القريب. فالتبشير بعدم القدرة على تأمين “فيول” المعامل والبواخر، والنقص الحاد في مادة المازوت لتلبية مولدات الأحياء، سيرفعان ساعات التقنين ويعطّلان مختلف الانشطة الاقتصادية.
بواخر من دون “فيول”
المضحك المبكي هو ان “لبنان الذي يدفع كلفة إيجار بواخر الطاقة بالدولار الاميركي كاملة، يعجز عن تأمين الفيول اللازم لها لتوليد الكهرباء”، تقول الخبيرة في شؤون الطاقة جيسيكا عبيد. فالباخرتان اللتان من المفروض ان تؤمنا للبنان 396 ميغاواط، ستتراوح قدرتهما الانتاجية بين 30 و 50 ميغاواطاً في احسن الاحوال. ومثلهما ستنخفض القدرة الانتاجية في المعامل الحرارية في الزهراني ودير عمار والجية والزوق بسبب النقص الكبير في الفيول اويل.
إذا كانت النظريات الايديولوجية تأخذ من العمل التراكمي دافعاً لتحقيق الرؤية، فان الاخطاء الكمية والنوعية التراكمية في الخطط الكهربائية عطّلت كل الحلول المنطقية. وأصبح “من الصعب للغاية على المؤسسات المالية الموافقة على التمويل الائتماني لمشاريع البنية التحتية في لبنان، سواء كانت ممولة من القطاع الخاص أو العام، ما لم يتم اعتماد مصداقية اقتصادية شاملة مع بدء التنفيذ الفوري. ومن المرجح أن يكون تمويل صندوق النقد الدولي مشروطاً بالاصلاحات في قطاع الطاقة تحديداً”، هي خلاصة “خطة العمل الطارئة لقطاع الطاقة في لبنان”، (الورقة البيضاء)، الصادرة عن البنك الدولي.
التعمد بعدم تنفيذ أبسط الإصلاحات في الكهرباء على مدار السنوات السابقة لن يدفع بحسب الاخصائيين إلى انقطاع التيار فحسب، بل إلى انهيار بنية القطاع وعجزه عن تأمين حاجات لبنان والتسبب بتراكم المزيد من الخسائر. فالهم الوحيد لدى الوزارء المتعاقبين كان كيفية تأمين حلول سريعة، على الرغم من انها غير مستدامة”، تقول عبيد، “فكانت النتجية خسارتنا الحلول الدائمة وفقدان جدوى الحلول الموقتة التي جرى اعتمادها”.
إختراع الكهرباء
في ظل الحاجة الماسة إلى تطوير المعامل القائمة وبناء اخرى جديدة، لم تُقدِم الحكومة على خطوة إصلاحية واحدة تظهر حسن نيتها. وهو ما تظهر نتيجته واضحة في تعليق كل القروض، سواء كانت من الدول المانحة أو مؤسسات التمويل الدولية أو الجهات الخاصة بانتظار البدء بالإصلاحات. فخطة الكهرباء التي انجزتها الحكومة مكلفة ولا تعتمد على الحلول البديلة من الطاقة المتجددة. وفي جميع الاحوال فان “الوزارة تتعامل مع ملف الطاقة كأنها تخترع الكهرباء او تبتكر ما لم يسبقها اليه أحد. في حين ان المشكلة ليست تقنية. فالمعامل في العالم بدأت العام 1880، وهناك تجارب لا تعد ولا تحصى اثبتت نجاحها، نستطيع الاهتداء بتجاربها والاستلهام منها”. لكن هذا ما لا يحصل، من وجهة نظر عبيد. بل ان “المسؤولية تضيع بين وزارتي الطاقة والمالية وشركة الكهرباء. ولم نعد نعرف صلاحيات كل جهة منها. وبالتالي تتعطل القدرة على المحاسبة والمساءلة”.
الحل سياسي
“لن تحل أزمة الكهرباء ما لم يتم رفع يد السياسة عنها. وهذا ما لم ولن يحصل على الارجح”، يشير احد المصادر المتابع لملف الكهرباء. فالطرح المقدم من “التيار الوطني الحر” لإدخال تعديلات على القانون 462 الذي يرعى تشكيل وعمل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، يهدف إلى الحد من صلاحياتها التي كفلها المشرع، واستمرار سلطة الوزير المطلقة على القطاع، ما يؤدي الى عرقلة كل المشاريع التي تتعارض مع توجهاته أو سياسته أو أهدافه.
خطوات الاصلاح في قطاع الكهرباء يجب ان تبدأ أولاً، من وجهة نظر عبيد بـ “الحوكمة وتعزيز الشفافية والحد من التأثير السياسي وإعادة الاعتبار الى شركة كهرباء لبنان”. هذا بالاضافة إلى “اعتماد اللامركزية والاتجاه لإنتاج الطاقة البديلة على المستويين العام والخاص. وطالما لم نباشر بالاجراءات التي تعزز الشفافية فان انعدام الثقة سيزداد، وسيدفع نحو مزيد من إحجام المستثمرين عن الدخول في مشاريع مع وزارة الطاقة. وهذا ما بدأنا نلحظه بعدم الإقبال على المناقصات التي تفتحها الوزارة في ما خص استيراد المازوت”.
Views: 7