لا يمرّ يومٌ لا يُتحفنا فيه البعض من “جهاز المصارف” بتدبير استنسابيّ أو قرار أحاديّ أو محاولة يائسة لطمس الفشل وإخفاء مدى التورط بلعبة المضاربات في أسواق البورصة. يتمثّل همّ هذا اللوبي راهناً بتسويق أن لا سعر صرف رسميّاً للدولار، لإيجاد الوقت اللازم الذي تتطلبه معالجة قضية الودائع المستنزفة دفترياً والمبخّرة نقدياً. وبعيداً من كل الارتكابات بحقّ المودعين، لا بدّ من توضيح اللغط الحاصل بين الودائع والقروض. فتارةً، تتخبّط المصارف لتنظيف ميزانياتها عبر التعامل مع ودائع الناس ومدخراتهم على انها قروض، وطوراً يجسّ الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود نبض الشارع من خلال طرحه احتمالية ان يطال تحرير سعر الصرف الديون المدولرة…
ما بين سعر الصرف وعقدَي القرض والوديعة علاقة يشوبها قليل من الجهل والكثير من التعمية المعتمدة. لكن وقبل الغوص في التفاصيل، لا بدّ من الإشارة الى انّ عقد الوديعة قانوناً ليس عقد قرض وذلك بحسب قانون الموجبات والعقود. فوفقاً للمادة 711 م.ع على المصرف ان يلتزم برد الوديعة عينها كما وردّ ملحقاتها بالعملة عينها التي اودعت فيها، “حيث انه لا يجوز للمصرف تحويل حساب العميل من دولار أميركي الى الليرة اللبنانية بدون موافقته او خلافاً لتعليماته”. وبحسب القانون، فانّ المصرفي بطبيعة عمله وبحكم مهنته يقوم بقبول الودائع، الامر الذي يدخل في أساس عملياته اليومية، وهو في هذا المجال مسؤول عن سبب كل هلاك او تعيّب يصيب الوديعة وذلك استناداً الى المادة 713 م.ع، فيما لو ثبت انه كان في وسعه اتقاء ذلك، ولا فرق اذا كانت الودائع نقدية ام كميات من الذهب”. ذلك يعني باختصار انّ الودائع، تشكل ذمة ائتمانية موضوعة باستعمال المصرف وتكون منفصلة تماماً عن ذمته المالية، وتدوّن في بند خاص بها، ويجب أن تبقى بمنأى تماماً عن دائني المصرف، بحيث لا تكون قابلة للحجز.
المودعون ليسوا دائني المصارف
عن الموضوع، توضح الأستاذة الجامعية والباحثة في القوانين المصرفية والمالية الدكتورة سابين الكيك أن”القوانين واضحة وهي لا تقبل الالتباس. لا بد من التطرق قبل كلّ شيء الى اللغط المتعلق باعتبار الوديعة بمثابة قرض. ففكرة ان المودعين قاموا باقراض المصرف خاطئة تماماً، والصحيح ان المودعين أودعوا أموالهم في المصارف لاجراء عمليات مصرفية إدخارية.
صحيح ان للمصرف الحقّ، بحسب القوانين المنظّمة للمهنة، ان يستثمر الأموال المودعة لديه، الا ان ذلك الاستثمار يكون مربوطاً بآجال قريبة بعيداً من الدخول في سوق المضاربات بأسواق البورصة، فمهمة العمل المصرفي حماية مدخرات الناس واستثمارها بمشاريع مضمونة. لهذا السبب، حظرت على المصارف كل الاعمال التي من شأنها تقويض وضعه الائتمانيّ استناداً الى احكام المادتين 152 و153 من قانون النقد والتسليف. الى ذلك، لو كان المودعون مقرضين للمصارف، كيف يتم ذلك من دون أي رهن او ضمانات عقارية تحمي حقوقهم كدائنين؟”.
وتضيف الكيك: “لا بدّ من ان تقترن كل عملية إيداع مصرفية بعقد وكالة يكون بموجبه المصرف محافظاً على أموال المودعين. وذلك يعني انه لا يحق للمصارف استخدام الأموال المودعة لديها كيفما ووقتما تشاء. في هذا المجال، يُعتبر المصرف في علاقاته مع العملاء بمثابة الوكيل المحترف المأجور، وتترافق الوكالة مع مجمل الأوضاع القانونية الناشئة عن العمليات المصرفية ذات الطبيعة المركبة والمتتابعة التنفيذ، حيث يقتضي معها على المصرف الالتزام بالاعتناء بمصالح المودع او العميل، وهذا ما حدا الى اعتبار المصرف مسؤولاً عن الضرر اللاحق بعميله من جراء تدهور قيمة العملة الوطنية الناتج عن تصرفه المخالف للأصول المصرفية في هذا المجال، بصفته الوكيل المعتمد، الموكولة اليه مهمة الحفاظ على مصالح موكله وحمايتها قدر الإمكان وضمن اطار السلطات الواسعة التي يتمتع بها لدرء المخاطر الاقتصادية عن عميله ولا سيما لناحية تقلبات العملة”.
القانون يحمي المدينين
هذا في ما خصّ الودائع، اما في موضوع القروض المدولرة والتي أفرطت المصارف بوهبها للناس خلال الأعوام المنصرمة، فتقول الكيك: “لا بدّ من التذكير انه ومنذ تسعينات القرن الماضي، والسياسة التسليفية للمصارف مبنية على سعر صرف مستقر وثابت عند 1515. وقد اعتمد مصرف لبنان بموافقة الحكومات المتعاقبة مبدأ تشجيع التجار والافراد والقطاعات على القبول بابرام القروض بالعملة الأجنبية. وعليه، فان حجم التسليفات الذي قرره مصرف لبنان كان مبنياً منذ البداية على الدخل الفردي استناداً إلى سعر الصرف الثابت. من هذا المنطلق، لا مهرب من استصدار تشريع موازٍ يحمي المواطن من استنسابية المصارف لئلا تكون مخاطر تقلبات سعر الصرف وفق المبادئ الدولية على عاتق المستهلك العادي. لكن وفي حال عدم حصول ذلك، يجب الارتكاز على قانون حماية المستهلك والذي أراد المشرّع منه حماية المدينين بالعقود المصرفية التي تتضمن دفعات بالتقسيط”.
سعر صرف القروض غير قابل للتحرير
يخضع عقد القرض لقانون حماية المستهلك، لذا، فقد حرص المشرّع صراحة على ان تُعطى الديون المحددة بأقساط عناية خاصة. تنطبق احكام القانون على العقود المبرمة مع المصارف والمؤسسات المالية، من بوابة حماية اصحاب القروض وهم الحلقة الاضعف في بنود المصارف التعسفية والتي قد تعطي الحق للمصرف بتعديل شروط العقد وقيمته، وذلك عبر استغلال حاجة المدين المادية وعوزه في غالبية الاحيان وهو ما يجبره على الرضوخ والقبول بشروط تعاقدية مجحفة.
ورغم المزايدات والاجتهادات ومحاولات ادخال بعض المواد القانونية في بازارات التأويل، ورغم تزايد الاشكاليات المتعلقة بتحديد سعر صرف القروض بالدولار الاميركي، وعما اذا كان سيُحدد (في حال تحرير سعر الصرف الرسمي) عملاً بتاريخ الايفاء ام تاريخ انشاء العقد، يبقى المنطق القانوني في دولة اعتمدت سياسة التثبيت لما يناهز الـ25 عاماً واحداً خصوصاً وانّ سعر الصرف الذي أنشئ بموجبه العقد كان محدداً بـ 1515 ليرة؛ وهو ما يُلزم المصارف بقبول العملة الوطنية لايفاء القروض المدولرة، والاهم الزامها بقبول تسديد كامل اقساط القرض في حال اراد المدينون ذلك، بالارتكاز على التمثّل بالدولة وهي التي تعتمد في عقودها التعاقدية كافة عبر ديوان المحاسبة سعر صرف تاريخ انشاء العقد وليس تاريخ الايفاء.
Views: 4