لازالت الولايات المتحدة تتصدر النظام الدولي، الذي ساهمت بدور كبير في إرساء معالمه ومؤسساته منذ الحرب العالمية الثانية؛ على أنه من الضروري التوقف عند دلالات كثير من القرارات العديدة التي أصدرتها إدارة ترامب في سنواتها الأربع التي توشك على الانتهاء، وربط بعضها ببعض، لندرك مدى خطورتها، وعمق تأثيراتها على شكل وترتيبات النظام الدولي ومستقبله. صحيح كل من هذه القرارات له ظروفه الخاصة، ولكن هذا لا يغير من الصورة الشاملة. وكان آخرها قرار إدارة ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، الذي تلا سلسلة طويلة من القرارات والإجراءات.
فمنذ سنوات طويلة بدأت أزمة واشنطن مع المنظمة، فرغم أن الولايات المتحدة هي أكبر المساهمين في المنظمة، أو كانت كذلك، فقد كانت هناك تحفظات قديمة للتيار المحافظ الأميركي فيما يتعلق بفلسفة المنظمة أو بعض سياساتها، ثم تفجرت الأمور أخيراً مع تفشي كورونا، في البدء بإنكار الأزمة ثم بتوجيه الاتهام بأنها كانت متسترة على مسؤولية الصين، ومشكلة هذا الاتهام أن مصادر أميركية ككبير مستشارى ترامب للشؤون الصحية، وكذا تسريب عن المخابرات الأميركية ينفيان المسؤولية عن بكين، ولكن كل هذا لم يمنع ترامب من تجميد مساهمات بلاده في المنظمة التي قد تكون بالفعل بحاجة إلى مراجعة جادة في أدائها واستراتيجيتها، ولكن في الحقيقة هذا ليس بيت القصيد، فما هو مهم لترامب هو إيجاد شماعة ليعلق عليها قصور السياسات الصحية في إدارته، وقصور إدارته للأزمة عموماً، وكذا لتقليص التزاماته الخارجية المالية. عموماً وبصرف النظر عن الانتقادات الدولية ضد القرار الأميركي فقد انتهى الأمر بالانسحاب الرسمي.
من ناحية أخرى أصدر الرئيس ترامب في 11 يونيو (حزيران) الماضي أمراً تنفيذياً يتيح فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية الذين يشاركون في التحقيقات التي أطلقتها المحكمة في مارس (آذار) الماضي، بشأن انتهاكات قوات أميركية في أفغانستان في الفترة من 2003 إلى 2014، وكانت واشنطن قد أصدرت تحذيرات سابقة ضد المحكمة في كل مرة يتردد فيها أنها ستنظر في هذه الجرائم، أو في جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أثار بالطبع ترحيباً إسرائيلياً كبيراً. ولم تشارك كل من الولايات المتحدة، وإسرائيل في عضوية المحكمة، ولم توقعا اتفاقية إنشائها، ما يمكن معه القول بأن هذا الموقف الأميركي يتماشى مع موقف الولايات المتحدة منذ إنشاء المحكمة، ويتسق مع ذلك الجانب المتعالي والإمبراطوري في السياسة الأميركية تاريخياً الذي يعطي لنفسه حقوقاً فوق المساءلة القانونية.
وإذا لم تكن واشنطن عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، فإن حالة منظمة الصحة العالمية ليست الأولى، فتاريخياً كانت لدى واشنطن أزمة مع منظمة اليونسكو – أي منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة – فقد دأبت منذ سنوات على توجيه الاتهامات لليونسكو بالانحياز ضد إسرائيل، أو بعبارة أكثر دقة تعاقب المنظمة على القيام بمهمتها في الدفاع عن التراث المسيحي والإسلامي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وجمدت عضويتها في هذه المنظمة في زمن إدارات أميركية سابقة، وهي عضوية أعادها أوباما في تطور مهم ولافت، ثم جاء ترامب ليس فقط ليحذو حذو خطوات إدارات جمهورية سابقة بالتجميد، وإنما لينسحب كذلك من المنظمة إرضاءً لخاطر إسرائيل. وفي موقف متعصب لا ينفصل عن جملة الانحياز لهذه الدولة. واستكمالاً لهذا الجانب، أقدمت إدارة ترامب على خطوة أخرى متناقضة مع سجلها التاريخي وهي المتعلقة بمنظمة أونروا لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فرغم الانحياز الأميركي التاريخي ضد الشعب الفلسطيني، كانت واشنطن تخفف هذا تاريخياً بلعب دور مهم في تمويل أونروا منذ إنشائها عبر الإدارات المختلفة من جمهورية وديمقراطية، وجاء ترامب في إطار ضغوطه على الشعب الفلسطيني للاستسلام، وقبول خطته لتصفية القضية بقرار وقف إسهام بلاده في تمويل المنظمة ليضيف لمعاناة الشعب الفلسطيني الكثير.
ولكي تكتمل بعض أبعاد الصورة نحتاج للتوقف عند مرفق دولي آخر، وهو مكافحة التغير المناخي، وهو مرفق من الخطورة بمكان بل لعله أحد أكبر التحديات أمام الجنس البشري، ومع تصاعد الاهتمام الدولي بدأت عملية دولية واسعة تحت إشراف الأمم المتحدة بعد تزايد اليقين الدولي بأن إدارة هذا المرفق تحتاج لتضافر وتآلف من كل دول العالم. وخلال عملية التفاوض الصعبة التي استغرقت عدة سنوات، اتسم الموقف الأميركي بالتشكك والتردد، وكان الغالب على السياسة الأميركية تغليب رؤية أن هذا ليس تغيراً مناخياً، وإنما دورات مناخية ومن ثم لاداعي لأي إجراءات عالمية للحد من التلوث البيئي، وحتى حملة نائب الرئيس الأميركي الأسبق آل جور التي تحولت إلى جزء من حركة التيارات التقدمية الأميركية لتتبناها إدارة أوباما التي وقعت اتفاقية باريس، ما شكل نقلة دولية ومعنوية هائلة لجهود مكافحة التغير المناخي، جاء ترامب ليتحدى هذا الفكر، وليعلن منذ الحملة الانتخابية نيته الانسحاب، ونفذ تهديداته رغم تقرير العلماء الأميركيين الذي أعدوه بناءً على طلبه، الذي خلص إلى أن هناك تهديدات حقيقية جراء تغير المناخ، وفي النهاية القرار الأميركي شكل نكسة دولية كبرى للجهود الدولية في هذا الصدد .
استعراض هذه المواقف الأميركية يشير إلى أن كل حالة لها خصوصيتها في السياسة الأميركية، وكانت محل جدل داخلي، كما تشير إلى أنها تتماشى مع رؤى التيار الأميركي المحافظ ومواقفه تاريخياً، وكان موضوع غضب هذه الأوساط التي دفعت بترامب بغية استعادة كل التنازلات التي قدمتها واشنطن في عهد أوباما نحو الاقتراب من تطورات التنظيم والحوكمة الدولية ومرحلة العولمة، واتساقاً مع تقاليد الولايات المتحدة في المعايير المزدوجة التي اعتادت أن تقبل من التنظيم الدولي ما يتفق ومصالحها، وتعارض ما قد يخالفها حتى لوكانت هذه المصالح محدودة نسبياً.
على أن الأمر أعقد من هذا بكثير، وربما نحتاج للعودة لتجربة إخفاق النظام الدولي الذي أنشأته عصبة الأمم بدور ودفع رئيس من الولايات المتحدة ورئيسها آنذاك، ودرو ويلسون، ثم عندما عاد إلى بلاده رفض مجلس الشيوخ الأميركي انضمام بلاده للمؤسسة الدولية، وهو ما اعتبر أحد مصادر إخفاق المؤسسة منذ إنشائها، وكان هذا سبب بالإضافة لعدم ضم ألمانيا في اعتلال هذا النظام الدولي منذ بدايته الذي عجز عن حماية السلم والأمن الدوليين، وانتهى باندلاع الحرب العالمية الثانية، وانهيار هذا التنظيم الدولي.
وهنا قد نسمع من يقول بأن النظام الدولي الراهن القائم على أساس الأمم المتحدة واجه ويواجه تحديات عديدة منذ زمن الحرب الباردة، وعجز في كثير من المراحل عن منع الكثير من الصراعات والأزمات الدولية، وكل هذا صحيح، ولكنه أيضاً حقق نجاحات في بعض الحالات وخفف كثيراً من الاحتقانات، كما أن العالم لم يعلن تخليه بعد عن هذه المؤسسات، وكان هناك كثير من النجاح في قضية تهدئة صراع العملاقين زمن الحرب الباردة، ونجاح في تصفية الاستعمار التقليدي، ثم قدر من النجاح في حالات صراعات ما بعد الحرب الباردة وخلال زمن هيمنة الولايات المتحدة، وكان هذا نجاحاً نسبياً (كما وصفه الراحل بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة) مرتبطاً بعدم عرقلة واشنطن لهذا الدور.
لكن ما يحدث في النظام الدولي في العقد الأخير من تراجع هيمنة واشنطن، وعدم تبلور معالم نظام دولي جديد واستمرار التأثير المحدود للأطراف الدولية الصاعدة على أطر إقليمية دون دولية، وغياب القيادة في أغلب مستويات التنظيم الدولي والإقليمي، وترهل مؤسسات المنظمة الدولية، وترهل بيروقراطيتها، يأتي كل هذا مع حالة الانسحاب الأميركي ليكمل حالة السيولة، وحالة عدم التبلور اللتين يتسم بهما النظام الدولي الراهن، وتدفع للبحث عن مخارج، إما لإعادة الحيوية لهذا النظام، أو البحث عن بدائل أخرى، أو استمرار هذا التردي الذي سيعمق من أزمة هذا النظام وشل فعاليته وقدرته على التأثير.
Views: 2