صحيح أنه يجب الانتظار الى مساء يوم الثلاثاء للتثبّت من أنّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب اجتاز المرحلة الخطرة، إلّا أنّ الحسابات بدأت فوراً حول تأثير إصابته بفيروس كورونا على نتائج الانتخابات الرئاسية بعد أقل من شهر.
الجمهوريون يأملون في أن يؤدي ذلك الى خَلق جوّ تعاطف مع الرئيس المصاب ولكن العنيد، والذي لا يزال يتمتع بحيوية فائقة توازي حيوية الشباب، إذ انّه استمرّ في ممارسة مهامه رافضاً نقل صلاحياته الى أحد.
وهي في الواقع الصورة التي يريدها الاميركيون دائماً عن رئيسهم بأن يكون صاحب حيوية وقدرة لقيادة البلاد. لذلك يمكن ان نفهم لماذا دأبَ ترامب واستمتع في وصف خصمه بجو «النعسان». وفي المقابل، فإنّ أخصام ترامب سيجدون في وقوعه ضحية كورونا إثباتاً فاضحاً لاستهتاره الدائم بخطورة هذا الفيروس ودعوته الدائمة لسياسة فتح البلاد والاسواق من دون إيلائه الاهتمام الكافي لحماية الأميركيين منه.
لكن قبل إصابة ترامب بالفيروس، كانت ارقام استطلاعات الرأي كارثية بالنسبة للجمهوريين. فبعد المناظرة الاولى التي حصلت بين ترامب وبايدن، والتي نالت انتقادات قوية بسبب المستوى المتدني لها، أظهرت نتائج استطلاعات الرأي تقدماً بفارق واسع لبايدن على ترامب وصل في إحداها الى 13 نقطة. ومعه بات الجمهوريون يخشون، ليس فقط خسارة البيت الابيض، بل ايضاً الاغلبية في مجلس الشيوخ. لذلك أصَرّ ترامب على الانتقال الى المستشفى، ولكن بعد إغلاق اسواق البورصة كي لا تتأثر سلباً وينعكس ذلك مزيداً من الخسائر على الاسواق المالية والاقتصادية. كذلك انطلق نائب الرئيس مايك بنس للقيام ببرنامج ترامب الانتخابي واستكماله. فالمطلوب حشد أقصى درجات التأييد ودفع الشعب الأميركي للذهاب بكامله الى صناديق الاقتراع. وعلى سبيل المثال، فإنّ ولاية ساوث كارولينا، والتي ربحها ترامب عام 2016 بفارق 14 نقطة، تشير استطلاعات الرأي الى انه ما زال متقدماً ولكن بفارق نقطة واحدة فقط لا غير. وفي ولاية هايوا، حيث جرت المناظرة الاولى، فإنّ ترامب كان قد ربحها بفارق 9 نقاط، امّا استطلاعات الرأي اليوم فتشير الى تقدّم بايدن ولو بفارق ضئيل. وأخيراً وليس آخراً، فإنّ بايدن استطاع التقدّم في ولاية جورجيا، وهي ولاية حمراء تاريخياً أي ولاية جمهورية، بفارق ضئيل بحسب استطلاعات الرأي أيضاً.
ولأنّ الاخبار الداخلية جاءت بمعظمها سيئة لترامب، فهو حاول التعويض بانتصارات خارجية. منها ما جاء مع التطبيع الاماراتي والبحريني مع اسرائيل، ومنها ما سيحاول الاستفادة منه والتسويق له مع الاعلان عن بدء مفاوضات التمثيل البحري بين لبنان واسرائيل.
لكن قبل ذلك، حاول وزير الخارجية مايك بومبيو نَيل لقاء مع رأس الكنيسة الكاثوليكية كي يستطيع ترامب استثماره مع كاثوليك الولايات المتحدة الاميركية الذين يتأثرون الى حدّ بعيد بمواقف الفاتيكان. وربما لذلك رفض قداسة البابا تحديد موعد له بذريعة انّ الاجتماع قبل موعد الانتخابات سيكون غير مناسب. وربما ما لم يَقله الفاتيكان إنه من غير المنطقي أن يعطي رأس الكنيسة الكاثوليكية صورة لقاء مع بومبيو قبل فتح صناديق الاقتراع، فيما منافس ترامب، أي جو بايدن، كاثوليكي ملتزم.
ولكن هذا لا ينفي انّ للفاتيكان علاقة جيدة مع ادارة ترامب التي عيّنت أحد أبرز رجالاتها سفيراً في الفاتيكان. المهم انّ ترامب، الذي سيُرسل مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر الى لبنان ليتصدّر صوَر انطلاق مفاوضات الترسيم البحري مع اسرائيل، سيسعى لأوسع استثمار إعلامي. وقد حجزَ عشرات الصحفيين الاميركيين غُرفاً لهم في فنادق بيروت لهذه الغاية، وهم سيركّزون على انها المرة الاولى منذ حوالى 38 عاماً، أي عند اجراء مفاوضات اتفاق 17 أيار، يجلس فيها لبنان مع اسرائيل ولو تحت رعاية وإدارة الامم المتحدة وبحضور اميركي. لكنّ هذا الاهتمام الاعلامي الاميركي لن ينسحب على الملف اللبناني الداخلي الكارثي، حيث هنالك أزمة حكومية خانقة وانهيار اقتصادي ومالي مُريع. فواشنطن غارقة في الفوضى الانتخابية ايضاً، والأشهر الثلاثة القادمة قد لا تُنبئ بالاخبار الجيدة، ففي حال فوز بايدن، كما تشير الترجيحات حتى الآن، فإنّ ترامب سيشاغِب، وفي أفضل الاحوال سيسعى لإنزال عقوبات قاسية على إيران لعرقلة وعود الديموقراطيين بالعودة الى الاتفاق النووي. وهذه العقوبات ستشمل «حزب الله» في لبنان وحلفائه من دون أدنى شك.
وفي حال فوز ترامب فإنه سيدشّن ولايته الثانية بسلسلة عقوبات قاسية ايضاً على ايران، ولكن بهدف إنهاكها أكثر لجَلبها الى طاولة المفاوضات من دون قدرات دفاعية. ولكن هذا قد يؤدي الى ردّ فعل إيراني من خلال حلفائها في المنطقة، ومن بينهم «حزب الله». وهو ما قد يؤذي الاستقرار الأمني في جنوب لبنان والمفاوضات التي ستبدأ. هذا ليس مؤكداً، لكنه احتمال موجود في واشنطن. وفريق ترامب يدرك انّ طهران تعاني اقتصادياً، لكنه يأمل بليونة أكبر حيال الاتفاق الذي يريده منها. ووَسْط هذه الصورة الملبّدة، يسعى الرئيس الفرنسي الى إعادة هندسة مبادرته. هو قرّر الاستمرار في تَوغّله في الملف الحكومي اللبناني على أساس انّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستساعده في جهوده لدفع مبادرته الى الامام. وماكرون لم يعد يستطيع الانسحاب، وهو الذي يتحضّر للانتخابات المناطقية المقررة في آذار المقبل قبل ان يذهب الى الانتخابات الرئاسية في العام 2022. ولا حاجة للتذكير بأنّ حزبه كان قد تلقّى ضربتين قويتين، الاولى في الانتخابات الاوروبية والثانية في الانتخابات البلدية.
هو قال إنه سيعاود تقدّمه في لبنان بعدما حَمّل «حزب الله» المسؤولية الاساسية بعرقلة ولادة الحكومة. ولا شك انه يراقب عن كثب الاصطفافات الجديدة في الشرق الاوسط من خلال محاور ثلاثة: المحور الايراني، وهو الاكثر تماسكاً حتى الآن. والمحور الاسرائيلي الخليجي، والذي ما زال فتياً وفي طور النشوء ويحتاج الى بعض الوقت لتمرير استحقاق التطبيع. والمحور التركي، الذي يركّز على غاز منطقة شرق البحر المتوسط وعلى توسيع دوره العربي من خلال الاخوان المسلمين. لكنّ ماكرون، الذي اعتقد بعد حصول انفجار مرفأ بيروت بأنه على تقاطع إقليمي مع ايران بوجه تركيا، خابَ ظنه سريعاً إذ سرعان ما حصل تقاطع تركي – إيراني ساهَم في حصوله التطبيع الاسرائيلي مع دول الخليج العربي. وأبرز اشارة الى هذا التقاطع زيارة اسماعيل هنيّة الى لبنان بُعَيد مغادرة طائرة ماكرون مطار بيروت. لذلك، حاولت باريس وستحاول من جديد طلب مساعدة موسكو المتحالفة معها في ليبيا. لكنّ السياسة الروسية في الشرق الاوسط معقدة ومتشابكة وصعبة الفهم. لذلك طرح وزير الخارجية الروسية على نظيره الايراني، خلال زيارته موسكو، ملف الحكومة اللبنانية بناء لتمنيات باريس.
لكنّ الملف طُرح بشكل عرضي وهامشي ومن دون تركيز واضح. وبقيت ايران على موقفها، ذلك انّ روسيا اكثر ما يهمّها في المنطقة الساحة السورية. صحيح انّ لموسكو مصالح تتناقض مع مصالح طهران، خصوصاً على مستوى الامساك بمفاصل النظام السوري، لكن حين تصبح المعادلة بالاختيار بين ايران والغرب فإنّ روسيا ستختار ايران من دون تردد. وثاني اهتمامات روسيا هي الساحة الليبية، لكن بشرط عدم تقديم هدايا مجانية لفرنسا وايضاً عدم إغضاب تركيا كثيراً.
بمعنى انّ الاختلاف بين روسيا وتركيا مسموح شرط عدم ذهاب أي منهما بعيداً. ومعه، فإنّ الساحة اللبنانية لا تهم موسكو كثيراً، لأنها تدرك انّ الهوا اللبناني هو غربي عموماً واميركي خصوصاً، مهما فعلت موسكو. وهي حاولت سابقاً التوغل في الساحة اللبنانية، وحصدت الفشل تحديداً عندما اقتربت من الجيش اللبناني الذي يشكل ما يشبه الخط الاحمر الاميركي. وبالتالي، وبعيداً عن الساعين لتضخيم ادوارهم على خط لبنان – روسيا، فإنّ زيارة لافروف الى لبنان نهاية الشهر الحالي، والتي يعوّل عليها الفرنسيون، قد لا تكون على قدر آمال الفرنسيين واللبنانيين، ولو بوجود استثناء بأنّ روسيا تؤيد عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وان تكون الحكومة حكومة وحدة وطنية لا تستثني أي طرف.
عدا ذلك فهي لا تبدو «مَفتونة» او مستعدة لبذل جهد يستفيد منه اي طرف لبناني آخر. لكنّ الأخطر ما تخطط له اسرائيل، حيث بيّنت التحقيقات الاخيرة إضافة الى معلومات خارجية بأنّ اسرائيل تقف وراء اعادة إحياء «داعش» في لبنان. وبَدا انّ هنالك بصمات اسرائيلية في الخلية التي جرى اكتشافها أخيراً. وبالتالي، فإنّ الواقع الاقليمي المُتشابِك يدفع اسرائيل الى اعادة استخدام «داعش»، ولكن على الساحة اللبنانية، وهنا مكمن الخطورة.
Views: 1