التضخم المفرط، فقدان الليرة اكثر من 85 في المئة من قيمتها وتعدد أسعار الصرف، عوامل تحتم على لبنان البحث عن سبلٍ للخروج من هذا المأزق. حذف أصفار من العملة، حل مجرّب لكن نتائجه غير مضمونة، خصوصاً في ظل انعدام الاصلاحات. فيما يظهر اقتراح اعتماد “الدولار اللبناني” كعملة وطنية بديلة عن الليرة حلاً جديداً يستأهل التفكير. فهل تلاقي مثل هذه الطروحات طريقها إلى التنفيذ؟
بعدما كان الدولار يساوي 1500 ليرة أصبح اليوم يعادل 7500 ليرة. وهو معرض بحسب أسوأ التوقعات لان يصل إلى 46500 ليرة في حال فشل الرهان السياسي واستمرار إهمال الاصلاحات. وعدا عن العامل النفسي فان لرفع قيمة العملة عبر شطب أصفار منها فوائد اقتصادية مباشرة، تتمثل في عودة 22 الف مليار ليرة إلى النظام المصرفي بهدف استبدالها بالعملة الجديدة قبل ان تفقد صلاحيتها. الأمر الذي ينعكس انخفاضاً في التضخم نتيجة تراجع تبديلها بالدولار بشكل مباشر او عبر الاستهلاك. كما ان العملة الجديدة المنقوص منها 3 أصفار تريح المواطنين من حمل مبالغ مالية كبيرة في التبادلات اليومية، وتخفف عنهم الاخطار الأمنية.
هذا من الناحية النظرية، أما عملياً فان الاقدام على مثل هذه الخطوة قبل المباشرة بالاصلاحات والحد من التضخم فعلياً سيلحق لبنان بفنزويلا وإيران. فالاولى حذفت 3 أصفار من عملتها عام 2008 بسبب التضخم، وعادت واضطرت إلى الغاء 5 أصفار مرة جديدة بعد 10 أعوام، وما زالت تعتبر أكثر البلدان التي تعاني من التضخم وانهيار سعر الصرف. والثانية غيّرت عملتها من “الريال” إلى “التومان” بعد حذف أربعة أصفار من قيمتها الاسمية، وما زال التضخم يرتفع بوتيرة مطردة. “إذاً، المشكلة ليست بعدد الأصفار، إنما بالسبب الذي يقف وراء تراكمها”، برأي رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني. “ما يعني ان إزالة 3 أصفار من العملة الوطنية ورفع قيمة الليرة إلى 7.5 ليرات مقابل كل دولار بدلاً من 7500 ليرة لن يصمد طويلاً. وسرعان ما سيعيد التضخم الاصفار الى العملة”.
المأزق الاقتصادي الذي نعاني منه يتمثل من وجهة نظر مارديني بـ”استمرار مصرف لبنان بطباعة العملة بكميات كبيرة جداً لتغطية أمرين: العجز الهائل في ميزانية الدولة بسبب ارتفاع النفقات وانخفاض الواردات وانعدام أي تمويل خارجي، وتمويل السحوبات من المصارف على سعر صرف 3900 ليرة. هذه الكمية الهائلة من الاموال والتي وصلت بحسب “المركزي” خلال الستة أشهر الاخيرة من العام الحالي إلى 22 الف مليار ليرة، تعتبر السبب الاول لزيادة التضخم وانهيار الليرة. وعليه فان معالجة هذا الخلل الجوهري يعتبر، بحسب مارديني، “كفيلاً بعودة الاستقرار لليرة وثباتها عند معدلات مقبولة لا تحتاج عندها إلى تغيير أو حذف للأصفار. لانه بحذف الاصفار نكون نعالج نتيجة المشكلة وليس سببها”.
“الطروحات المتعددة على الصعيد النقدي لا تقدم ولا تؤخّر ما لم تترافق مع خطة اقتصادية شاملة”، بحسب ناشر ورئيس تحرير مجلة “ليبانون أوبرتينيوتي” د.رمزي الحافظ. “وشطب الاصفار من العملة لا يشذ عن هذه القاعدة”. فعدا عن انه يزيد التعقديات على كافة المستويات على المدى القصير فانه يعتبر من وجهة نظر الحافظ “مضيعة للوقت”. فالتركيز يجب ان ينصب برأيه “على بناء خطة اقتصادية تقوم على رؤية واضحة، تلحظ بالاضافة إلى متطلبات الورقة الفرنسية أمرين أساسيين وهما: كيفية اعادة تحريك القطاع الخاص، وتحديد طريقة التعاطي مع الطبقة الفقيرة”. فمن دون تنمية القطاع خاص سيكون مصير كل الخطط المالية الفشل. ذلك ان ايرادات الدولة ستستمر بالتضاؤل، ومعدلات البطالة سترتفع اكثر والانكماش في الاقتصاد سيتعمّق. أما بخصوص الفقراء والذين يعانون من الفقر المدقع، فهم منسيّون، بحسب الحافظ، وكل الخطط لا تلحظهم. “بل على العكس تستمر السياسات في تعميق الفجوة بينهم وبين الاغنياء. فالدعم على سبيل المثال الذي يظهر كأنه مساعدة للطبقة الفقيرة ما هو في الحقيقة إلا دعم مموه للأغنياء. حيث تشير دراسة قمنا بتحضيرها انه لم يذهب إلى الفقراء إلا 1 مليار دولار من أصل كلفة الدعم التي بلغت 5 مليارات. في حين ذهب 4 مليارات دولار إلى غير الفقراء”.
الانهيار الكبير في قيمة العملة والانشغال بحذف الاصفار، يترافق مع ما هو أخطر بكثير، بحسب رئيس مجموعة FFA Private Bank جان رياشي، وهو “الانفصام في سعر الصرف”. فبين سعر صرف محدد في تداولات مصرف لبنان مع المصارف بـ 1500 ليرة وبين سعر صرف حقيقي في السوق يستخدم في العمليات التجارية، أصبح النظام التجاري خارج القطاع المصرفي. وهو ما يشكل بحسب رياشي “معضلة حقيقية ويفاقم الاخطار الماكرو اقتصادية”. فهو يهدد بتوسع عمليات تبييض الاموال وخروج لبنان عن قواعد الامتثال العالمية، ويقلص تدفق أموال المستثمرين بالعملات الأجنبية، ويحد من الاستثمارات والدفع بالدولار ثمناً للسلع والخدمات سواء كان نقداً أو عبر البطاقات، ويخلق اشكالية محاسبية للشركات التي تستبدل الليرات بالدولار على سعر صرف السوق من دون ان تمتلك مستندات ثبوتية؛ ما يعرضها للملاحقة القانونية، الضريبية والمالية. ويمنع المؤسسات العالمية من ارسال مساعدات بعشرات الملايين من الدولارات إلى لبنان بطريقة شرعية، لعدم قدرتهم على ايصالها الى مستحقيها بقيمتها الحقيقية.
إنطلاقاً من كل هذه المعطيات الخطيرة على الوضع الاقتصادي فقد “آن الاوان لان نعترف بسعر صرف آخر من خلال السماح بالتداول بين الدولار الخارجي والليرة اللبنانية، بصورة منظمة ورسمية ومن داخل القطاع المصرفي”، يقول رياشي. “وذلك من خلال طريقة تسمح بالاستغناء عن التداول بالاوراق النقدية، وتسعير سعر صرف الليرة بالنسبة الى الدولار الخارجي بشفافية أكبر، علماً ان ذلك سيؤدي إلى الاعتراف بسعر صرف للدولار الداخلي مختلف عن سعر صرف الدولار الخارجي”. وفي هذا السياق يطرح رياشي تساؤلات عن إمكانية قلب الطاولة، و”الاعتراف بصورة نهائية بهذه الازدواجية بين الدولار الاجنبي والمحلي، وذلك من خلال إلغاء الليرة اللبنانية كلياً، وتحويل كل الحسابات والعقود إلى عملة وطنية جديدة اسمها “الدولار اللبناني”، تتحدد قيمتها ما بين 2500 ليرة أو 3000 ويجري تعويمها مقابل الدولار الاميركي”.
الاقتراح غير النموذجي يقدمه رياشي كحل لاعادة إدارة العجلة الاقتصادية بعد فشل كل محاولات الاصلاح التي تتطلب Bail in أو Haircut. وذلك من دون ان يكون مزهواً به أو متوافقاً مع تطلعاته الاقتصادية. إلا ان تطويق الاقتصاد بحلقة سعر الصرف الجامدة وتعطيل عمل القطاع المصرفي، أصبحا يتطلبان كسر هذه الحلقة، ولو انها قد تحمل بعض السلبيات على تضخيم الودائع. إلا انها في المقابل تحوّل صافي الاحتياطي في مصرف لبنان الى ايجابي، لان المطلوبات بالدولار تتحول الى الدولار اللبناني وتغطي الموجودات بالدولار الحقيقي الفرق. وبهذه الطريقة يعاود الاقتصاد عمله بطريقة طبيعية ويستأنف تحويل التدفقات النقدية الى لبنان.
كما أن حذف الاصفار لا يستقيم من دون تنفيذ الاصلاحات الضرورية، كذلك الامر بالنسبة للدولار اللبناني. فكل الطرق الاصلاحية تقود في النهاية إلى حقيقة ثابتة ترتكز على إتخاذ إجراءات تقشفية على صعيد السياسات المالية، والتخلص من عجز الميزانية المزمن، ووقف الاعتماد المفرط على طباعة العملة لتمويل العجز. وإلا فإن حذف الأصفار سيفقد تأثيره النفسي سريعاً، وتعود الأصفار بقوة أكبر.
Views: 3