انتشرت المقاهي الأدبية في دمشق وبغداد في العشرينيات من القرن العشرين، وكانت على قلّة عددها منابر لكتابة المقال الأدبي والقصة القصيرة وعمود الشعر من البحر الطويل، ومن الأسباب التي جعلت الكتّاب والمبدعين يؤمون هذه المقاهي هو سماع صوت أم كلثوم في الدرجة الأولى وبقية الأصوات الجميلة الأخرى، مثلاً شعراء دمشق كانوا يرتادون بعض المقاهي القديمة مثل (مقهى البرازيل، هافانا، والروضة)، هذه المقاهي يرتادها المثقفون والسياسيون، وهي تقع في الشوارع الرئيسة لمدينة دمشق وكان شارع بغداد وشارع العابد وسط دمشق يغصّان بالمقاهي، وهناك مقاهٍ أخرى مثل مقهى (النوفرة) ومقاهي الحرفيين والزراعيين.
كان بعض هذه المقاهي يقع على نهر بردى، ما يضفي جمالاً على الجالسين فيها، وقد يلتقي فيها الأدباء والشعراء والسياسيون، ويتبادلون الأحاديث وينظمون الشعر وينقدون الكتب، ويتبارون في أبيات الشعر لشعراء عرب في العصر الجاهلي، وكان شعراء بعض هذه المقاهي يؤلّفون لجاناً ثقافية وأدبية واسعة ويسجلون أسماء الشعراء الذين يجلسون فيها من سوريين وعراقيين، وقد أمّ هذه المقاهي الأدباء والشعراء والمبدعون أمثال: الرصافي، والزهاوي، هاني الراهب، مظفر النواب، نازك الملائكة، لمعية عباس عمارة، محمد الماغوط، سليمان العيسى، محمد عمران، ممدوح عدوان ، صدقي اسماعيل، عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي جلس في مقهى الروضة، واستقبل بحفاوة بالغة، وكان الشاي هو الشراب المفضل، ثم القهوة، دخلت بعد ذلك «الأراكيل»، وفي الآونة الأخيرة دخلت النساء هذه المقاهي، وأول امرأة كسرت الحصار هي الأديبة السورية (كوليت خوري)، كما كانت هذه المقاهي مكاناً مفضلاً لقراءة الصحف والمجلات المحلية والعربية.
هذا الازدهار في المقاهي السورية قابله ازدهار مشابه للمقاهي البغدادية، ففي مدينة بغداد هناك علاقات وتشابه بين الثقافة الدمشقية والبغدادية، نتيجة النشر والتأليف والمهرجانات الثقافية والزيارات المتكررة للأدباء والشعراء بين بغداد ودمشق، ما جعل الروابط الأدبية والثقافية متشابهة تماماً، ولهذا حظيت مقاهي بغداد الأدبية بوجود شعراء وأدباء سوريين وعراقيين ولبنانيين ومصريين، فأصبحت هذه المقاهي ظاهرة اجتماعية، حيث اللقاءات اليومية بين الأدباء والشعراء، وكاتبي القصة كتاباً وشعراء ونقّاداً وباحثين وهم يجلسون على أرائك خشبية يشربون الشاي البغدادي المهيّل، وشاي الدارسين، وشاي الحامض، وكان لهذه المقاهي الباع الكبير في النهضة الفكرية في العراق، امتدت إلى سورية ولبنان، ومن ثم إلى الوطن العربي.
كانت أكثر هذه المقاهي في شارع الرشيد تيمناً باسم الخليفة العباسي هارون الرشيد، مثل: مقهى الزهاوي، حسن عجمي، الواق واق، البرازيلية، ياسين، شط العرب، الشاهبندر، الرشيد، ومقهى أم كلثوم، وقد غنى في مقهى أم كلثوم في بغداد كل من الفنانين العرب (أم كلثوم، عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، سيد مكاوي، محمد الكبنجي، والمطربة السورية نرجس شوقي.. وغيرهم.
وفي كل مقهى خشبة مسرح (التخت البغدادي)، واعتاد على الجلوس في هذه المقاهي شعراء ومبدعون مثل (محمد بهجت الأثري، طه حسين، عباس محمود العقاد، محمد الماغوط، الزهاوي، الرصافي، محمد مهدي الجواهري، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب) وكثير من الأدباء والشعراء العرب الذين حضروا مهرجانات المربد الشعري في بغداد.
وأخيراً، فإن للمقاهي الدمشقية والبغدادية نكهة متشابهة، فكل شعراء وأدباء سورية والعراق يحبون الشاي والقهوة، وجميعهم يتبادلون الشعر بلغة واحدة، وجميعهم يشربون ماء دجلة والفرات، وجميعهم يكتبون ويؤلّفون كتبهم بين بغداد ودمشق، ويطبعونها في شارع الحلبوني والحجاز في دمشق.
وكما قال الجواهري –رحمه الله-: أرى بغداد بعيون دمشق، الشعر وكوب الشاي والقلم والحبر، بردى يناجي دجلة الخير ويضم الفرات في حضنه المفعم حباً وشوقاً إلى دمشق.
ولا ننسى الشاعر المصري أحمد رامي الذي نظم قصيدة للسيدة أم كلثوم في مقهى (البرلمان) في بغداد.
Views: 3