تصادف في هذه الأيام ذكرى الـ35 لرحيل الشاعر المصري أمل دنقل، الذي رحل في 21 أيار/مايو في 1983.
لا تُصالِح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى..؟
هي أشياء لا تُشترى.
هذه أبيات شعرية من القصيدة الخالدة "لا تُصالِح" التي كانت مثابة صرخة أطلقها الشاعر المصري أمل دنقل قبل زيارة الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل وخطابه في القدس. وصارت "لا تُصالح" أشبه بمنشورٍ شعري سياسي يتداوله الرافضون للتطبيع مع إسرائيل.
ولِدَ أمل محمّد فهيم دنقل في 23 حزيران/يونيو عام 1940 في قرية القلعة بمركز قفط بمحافظة قنا، تركت بيئة الصعيد بصمتها على بشرة أمل السمراء، وطباعه الحادّة، ومنها أخذ لقبه الأشهر "الجنوبي."
تقول زوجة دنقل الشاعرة عبلة الرويني في اتصال خاص بالميادين نت: "كان والد أمل من عُلماء الأزهر، وحين حصل على "إجازة العالمية" ولِدَ أمل فأطلق عليه إسم "أمل" استبشاراً بالنجاح الذي حققه".
ويتحدّث أمل دنقل عن نفسه قائلاً: "نشأت في بيئة أدبية وأبي من عُلماء الأزهر وكان شاعراً. وعندما توفى ترك لي مكتبة أدبية ودينية. كنت أقضي فيها أوقات فراغي".
توفى والد "أمل" وهو في عُمر العشر سنوات، فأصبح كبير العائلة في سن مبكرة. كان الصغير يصعد المنبر ليخطب الجمعة في قريته.
تصف أرملته عبلة الرويني شخصيته "كجنوبي" آت من الصعيد قائلة: "علّمه اليُتم الألم والمرارة، والظلم أن يصبح رجلاً صغيراً منذ طفولته، لم يعرف كيف كان يلعب الأطفال في شوارع القرية، ظل أعواماً طويلة يرفض أكل الحلوى لأنها في نظره لا ترتبط بالرجولة، اشتهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذي لايعرف الابتسامة".
أنهى «أمل» دراسته الثانوية في قنا، وارتحل إلى القاهرة، حيث التحق بكلية الآداب، لكنه لم ينتظم في الدراسة، وعاد مرة أخرى إلى قنا ليعمل في المحكمة برفقة صديقه شاعر "العامية" عبد الرحمن الأبنودي، ولم يستمر أي منهما في الوظيفة، حيث غادرا مرة أخرى إلى القاهرة بحثًاً عن الشهرة، وإثبات الذات.
كانت بداية أمل الحقيقية مع الشعر عام 1960 بعد أن حصل على معدّل في الامتحان السنوي لا يؤهّله الدخول في أي اختصاص علمي. فعمل في مصلحة الجمارك كمساعد مأمور في مدينة الاسكندرية لسنوات عدة، إلا أنه كان دائم الزيارت للقاهرة للمشاركة في دوواين الشعر والتواصل مع الصحافيين. فتعرّف على الشاعر عبد المعطي حجازي والكاتب أحمد بهجت الذي نشر له بعض قصائده في صحيفة الأهرام يوم كانت أهم صحيفة في الوطن العربي.
عام 1965 انتقل "أمل" إلى القاهرة، وتوطّدت علاقته بالشاعر عبد المعطي حجازي الذي كان أقرب الشعراء إلى قلبه. ونال جائزة المجلس الأعلى للآداب وللفنون للشعراء الشبّان تحت عُمر الثلاثين، فكان عُمره في ذلك الوقت 22 عاماً.
عام 1969 نشر "أمل" ديوانه «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» وهو إسم قصيدته التي كتبها عشيّة حرب 1967 وتنبّأ فيها بالهزيمة، وجسّد فيه بمستوى عالٍ من النضج الفني الشعور العربي المُحتقِن والمُحبَط عقب نكسة 1967 .
يقول في قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة:
أيتها العرّافة المقدّسة
جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المُكدّسة
مُنكسر السيف، مُغبّر الجبين والأعضاء
أسأل يا عذراء عن فمك الياقوت
عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع
وهو ما يزال مُمسكاً بالراية المُنكّسة.
تسبّبت قصيدته «أغنية الكعكة الحجرية» في إغلاق مجلة سنابل، التي نشرتها، وفُصِل رئيس تحريرها، وهي القصيدة التي كتبها «أمل» عام 1972.
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحةْ
أَشهِروا الأَسلِحةً
سَقطَ الموتُ، وانفرطَ القلبُ كالمسبحَةْ
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ
المنَازلُ أضرحَةٌ
والزنازن أضرحَةٌ،
والمدَى.. أضرِحةْ
فارفَعوا الأسلِحةْ
واتبَعُوني
أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحةْ
رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمةْ
وشِعاري: الصَّباحْ
عندما عقد السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، كتب أمل رائعته الخالدة: لا "تُصالح"
(1)
هل يصير دمي – بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي المُلطَّخَ بالدماء..
تلبس – فوق دمائي- ثياباً مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم
لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
كان ديوان «أوراق الغرفة 8» آخر دواوينه، حيث كتبه وهو يصارع مرض السرطان، ونُشِر بعد وفاته، وتميّزت قصائد الديوان بحسٍ وجداني، وعبّر فيه عن مُعاناته مع المرض، وتصوّراته عن الحياة، ولحظات ما قبل الموت، ودوّن فيه آخر أيام حياته.
يقول في قصيدة ضد من:
في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ
لونُ المعاطفِ أبيض
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات
الملاءاتُ
لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن
قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ
كوبُ اللَّبن
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ.
تزوّج أمل من الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، وكانت بداية تعارفه بها حواراً صحفياً أجرته معه لصحيفة "الأخبار"، لكنه اكتشف بعد الزواج بـ 9 أشهر إصابته بالسرطان، وظلّ يعاني لفترة طويلة وسط تجاهل من الدولة، ولم يكن يملك المال الكافي للعلاج.
تصادف في هذه الأيام ذكرى الـ35 للشاعر المصري أمل دنقل الذي رحل في 21 أيار/مايو في1983 في الغرفة رقم 8، بمعهد الأورام في القاهرة بعد مُعاناة طويلة مع مرض السرطان. وقد تنبّأ بموته قبل سنوات قليلة. يقول في قصيدته "الموت على الفراش:
أموتُ في الفِراش.. مثلما تموتُ العير
أموت والنفير
يدقُّ في دمشق
أموت في الشارعِ: في العطور والأزياء
أموتُ والأعداء
تدوس وجهَ الحق
وما بجسمي موضع إلا وفيه طعنة برمح
.. إلا وفيه جُرح
إذَن
فلا نامت عيون الجبناء.
كان "أمل" صديقاً حميماً لشاعر العاميّة عبد الرحمن الأبنودي، ولأهم قاصٍ وهو يحيى الطاهر عبدالله وللشاعر محمود درويش ورحل الأربعة إلا أن أعمالهم خلّدتهم وأصبحت لا تخلو من أية جامعة أو منزل.
المصدر : الميادين نت
Views: 4