لماذا “يتردّد” الاتّحاد الأوروبي في فرض حرب اقتصاديّة شاملة على تركيا كردٍّ على سِياساتها “العُدوانيّة” في شرق المتوسّط؟ وما هي أوراق الضّغط التي يملكها الرئيس أردوغان ويخشاها الاتّحاد؟ وهل اللّجوء إلى الخِيار القومي التّركماني هو الحل؟
من يَعرِف دهاليز عمليّة اتّخاذ القرار في الاتّحاد الأوروبي الذي يَضُم 27 دولة يستطيع أن يفهم عدم فَرضِه عُقوبات اقتصاديّة كُبرى على تركيا بسبب تصرّفاتها “غير القانونيّة والعُدوانيّة” (حسب ما جاء في البيان الأخير) في شرق المتوسّط ضدّ قبرص واليونان، واكتِفاء القمّة الأخيرة التي انعقدت الخميس بفرض “عُقوبات فرديّة” فقط، فالدول الأوروبيّة عُمومًا تستخدم أسلوب التدرّج، واستِخدام العُقوبات كورقة ضغط وتهديد لإظهار أكبر قدر من الجديّة للطّرف الآخر.
هُناك عدّة أسباب تَقِف خلف هذا الأُسلوب الذي يتّسم بالحذر والتدرّج:
-
الأوّل: تجنّب المُواجهة العسكريّة والاقتصاديّة المُباشرة، والإقدام على خطوات استفزازيّة بالتّالي مع تركيا تقود إلى ردّ فِعل قويّ من جانبها، وإعطاء فرصة أكبر للدبلوماسيّة للتوصّل إلى حلٍّ سياسيّ بأقل قدر مُمكن من الخسائر والتّنازلات.
-
الثاني: وجود خلافات كبيرة داخل الاتّحاد الأوروبي حول فرض العُقوبات وحجمها، فبينما تقود فرنسا واليونان جناح الصّقور الذي يُطالب بعُقوباتٍ صارمة على غِرار نظيراتها الأمريكيّة على إيران، يُفضّل جناح “الحمائم” الذي تقوده ألمانيا إلى التريّث، ومُحاولة إبقاء “شعرة معاوية” مع تركيا باعتِبارها دولة جارة، وعُضو في حِلف شمال الأطلسي، وتجنّب بالتّالي الإقدام على أيّ مُحاولة استِفزاز.
-
الثّالث: تركيا دولة قويّة، وتملك ثاني أضخم جيش في حلف الناتو، وصناعة عسكريّة مُتطوّرة، أيّ أنّها ليست لُقمةً سائغة مِثل ليبيا، مثلما تملك أوراق ضغط قويّة على جيرانها الأوروبيين مِثل “سِلاح الهجرة”، والقُدرة على اتّخاذ القرار بالتدخّل العسكري دون تردّد مثلما حدث في ليبيا وأذربيجان وقبلهما سورية.
الأوروبيّون “خُبثاء”، ويتمتّعون بنفسٍ طويل، وفرض عُقوبات على أفراد جُدد على قائمة العُقوبات التي أصدرها الاتّحاد عام 2019 يُؤشّر على أنّهم يُريدون التّصعيد التدريجي، وقِياس ردّ الفِعل التركي، وعلى ضُوئه يُمكن التوقّف أو الإقدام على خطواتٍ أكثر تَشَدُّدًا.
تأكيد السلطات التركيّة عدم اهتِمامها بهذه العُقوبات مُبالغٌ فيه في ظِل الوضع الاقتصادي التركي المُتأزّم بالتّوازي مع زيادة أعباء التدخّلات الخارجيّة العسكريّة في ليبيا وسورية وأذربيجان المُكلفة جدًّا للخزينة التركيّة، وإقدام إدارة ترامب على فرض عُقوبات اقتصاديّة مُوازية بسبب شِراء تركيا منظومة صواريخ “إس 400” الروسيّة.
حجم التّجارة بين تركيا ودول الاتّحاد الأوروبي يَبلُغ حواليّ 120 مِليار دولار سنويًّا، ثُلث هذا الرّقم مع ألمانيا تحديدًا، ولذلك فإنّ أيّ حرب تجاريّة أو اقتصاديّة تشنّها دول الاتّحاد الأوروبي، مُجتمعة أو مُنفردة، سيكون لها تأثير سلبيّ كبير على الاقتصاد التركي في وقتٍ تُحاط فيه البِلاد بالأعداء من كُلّ ناحية، ويتعاظم فيه دور الخُصوم الداخليين لحزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه رجب طيّب أردوغان.
قطر كانت الحليف الموثوق الذي يهرع دائمًا لنجدة الرئيس أردوغان في الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة، فقد تدخّلت الحُكومة القطريّة ثلاث مرّات لإنقاذ اللّيرة التركيّة، الأولى عام 2018 حيث قدّمت 15 مِليار دولار على شكلِ استِثمارات، والثّانية مطلع العام الحالي بـ 15 مِليار دولار على شكلِ استِثمارات وودائع في البنك المركزي، والثّالثة قبل أسبوعين أثناء زيارة الشيخ تميم بن حمد لأنقرة بعد تراجع الليرة التركيّة رُغم تغيير وزير الماليّة (صِهر أردوغان) ورفع نسبة الفائدة، ولكن لم يُقدّم أمير قطر مِليارات مثلما حدث في الزّيارتين السّابقتين وإنّما شِراء 10 بالمِئة من أسهم البُورصة التركيّة بقيمة 200 مِليون دولار فقط، حسب ما نشرته الصّحف ووكالات الأنباء وهي صفقة عرّضت الرئيس أردوغان إلى اتّهامات شَرِسَة ببيع أصول تركيا إلى دولة قطر من قِبَل المُعارضة.
ربّما يكون تواضع حجم وقيمة هذه الصّفقة راجع إلى تراجع الإمكانيّات الماليّة القطريّة بسبب انخِفاض أسعار النّفط والغاز، وتَصاعُد آثار الحِصار الذي تَفْرِضه الدّول الأربع المُقاطِعة لها، والنّفقات الباهِظَة لتكاليف مُنشآت كأس العالم.
تركيا، وبسبب بعض سِياسات الرئيس رجب طيّب أردوغان، وتدخّلاته العسكريّة الإقليميّة باتت على حافّة حرب اقتصاديّة شَرِسَة من شُركائها الأوروبيين، ولعلّ سحبها لسفينة التّنقيب عن النّفط والغاز في المِياه المُتنازَع عليها مع اليونان وقبرص، سعيًا للتّهدئة قُبَيل موعد انعِقاد القمّة الأوروبيّة هو أحد المُؤشّرات على إمكانيّة التّراجع عن هذه السّياسات أو بعضها.
الاستراتيجيّة التركيّة التي كانت تُراهِن على الاتّجاه غربًا والرّهان على دُخول الاتّحاد الأوروبي ثَبُتَ فشلها، والشّيء نفسه يُقال عن نظيرتها بالانفِتاح على العالم العربي، التي واجهت المصير نفسه بعد التورّط العسكري في دولتين عربيّتين هُما ليبيا وسورية، ويبدو أنّ الرّهان الجديد للرئيس أردوغان هو إحياء القوميّة التركيّة وحِزامها الذي يمتد من الإيغور غرب الصين وحتّى بلغاريا، فهل سينجح هذا الرّهان، وهل يملك الرئيس أردوغان الوقت لجَنِي ثِمار هذا التوجّه؟
من السّابق لأوانِه الإجابة على هذه الأسئلة، مع التّسليم بأنّ التدخّل العسكري في حرب “قرة باخ” ضدّ أرمينيا، وبعض النّجاحات التي حقّقها، ربّما يكون خطوة مُشجّعة في هذا الصّدد.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Views: 2