لا يختلف إثنان على وجه الأرض في وصف سنة 2020 على أنها سنة الأزمات الطاحنة. وفي لبنان على وجه الخصوص، وخلال فترة وجيزة، هبطت قيمة العملة الوطنية بشكل حاد، وعانت البلاد من شح العملة الصعبة، وقفزت معدلات الفقر والبطالة والتضخم إلى مستويات تاريخية هي الأسوأ منذ الحرب الأهلية، ناهيك عن مأساتي “كورونا” وانفجار مرفأ بيروت. والأخطر، أن ننهي عاماً منهكاً ونتوقع الأسوأ منه!
تحل السنة 2021 على لبنان حاملة تحديات بوجود طبقة سياسية عاجزة حتى الساعة عن تشكيل حكومة لمواجهة الأزمات المتلاحقة على المستويات الإقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتؤكد الأرقام المخيفة أن الأمن الغذائي في خطر والنظام الصحي على حافة التماسك والنظام المصرفي متضعضع، والقمع مستمر و”السوق السوداء” تسيطر على المشهد ككل فضلاً عن تراجع الدورة الاقتصادية وارتفاع نسبة الاستيراد مقابل الصادرات. فما هي هذه المؤشرات والأرقام؟ وما الذي تغير خلال عام واحد بين أواخر الـ2019 واليوم؟
إنهيار الليرة وارتفاع الأسعار
قبل الدخول في التفاصيل والأرقام لقراءة التغيير الحاصل، مجرد الإشارة إلى أن جائزة اللوتو اللبناني باتت تدفع “كاش” حتى ولو بلغت ملياراً واثنين وثلاثة وأكثر، تستطيع وصف الفرق بين 2019 و2020! فبين لجوء المصارف اللبنانية إلى فرض “تدابير إستثنائية موقتة” على عمليات السحب والتحويل إلى الخارج وخفض سقوف بطاقات الإئتمان، وقيود على حركة رؤوس الأموال من جهة واجراءات المصرف المركزي التي ارتأت اعتماد سياسة الدعم، ظهرت “السوق السوداء” الموازية وفقدت الليرة اللبنانية 78% من قيمتها في خلال العام 2020. وفيما لا يزال السعر الرسمي يتراوح بين 1506 و1520 لليرة مقابل الدولار، تسيطر “السوق السوداء” على التداول في ارتفاع جنوني وصل في أقصى حالاته إلى 9800 ليرة لبنانية للدولار، ضارباً القدرة الشرائية للمواطنين والحد الأدنى للأجور حيث كان يعادل 450 دولاراً للموظف وصار أقل من 80 دولاراً.
وفي منتصف العام 2020، وفي ظل خمول حكومي في ضبط الاحتكار أو انفلات أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية وارتفاعها بما نسبته 300%، بحسب رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، وفي إطار مواجهة سعر الدولار في السوق السوداء، التزم مصرف لبنان بضخ ما بين 3 و4 ملايين دولار يومياً في السوق وفق ضوابط قاسية، واتبعه بإطلاق منصة إلكترونية مخصصة لتنظيم تداول الدولار وتسعيره لدى محال الصرافة، إلا أن ذلك لم يؤت بنتيجة عظيمة، نظراً لعدة أسباب كان أبرزها ازدياد التهريب على الحدود فأصبحت سوق الصرف تتضمن ثلاثة أسعار للدولار، ولعبت الليرة دور البديل المشوّه لغياب العملات الصعبة بسبب “عملية طبع العملة”، التي زادت من الكتلة النقدية المتداولة وخلقت قوة شرائية اصطناعية وظهر ما يسمى بـ”اقتصاد الكاش”، الذي يدفع بالمواطنين للاحتفاظ بالعملة الصعبة معهم.
التخلف عن سداد الديون
في البدء تخلف لبنان عن تسديد مستحقات سندات اليوروبوند بقيمة 1.2 مليار دولار، وبرزت حاجته للتفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة الدين العام في ظل تراجع الاحتياطات بالعملة الأجنبية. ووفق تقديرات وكالة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز” تصل قيمة ديون لبنان إلى 92 مليار دولار، ما يشكّل حوالى 170% من الناتج المحلي وهي من بين النسب الأعلى في العالم، وعلى أمل الحصول على “بضعة مليارات” انطلقت مفاوضات مع صندوق النقد باءت بالفشل بين تقديرات الحكومة لخسائر الدولة بـ241 ألف مليار ليرة لبنانية، بينما قدّرتها لجنة تقصي الحقائق البرلمانية بما بين 60 و91 ألف مليار ليرة وبين تقديرات المصرف المركزي وجمعية المصارف. تلتها محاولات لانجاز مهمة التدقيق المالي الجنائي في المصرف المركزي ذهبت هباء بذريعة “السرية المصرفية” وعدم تخطي القانون! لكن القانون عُدّل والجميع في انتظار التدقيق الموعود.
خسائر انفجار بيروت والتضخم
وفي السياق نفسه، قدّر البنك الدولي الخسائر الاقتصادية الناتجة عن انفجار مرفأ بيروت (وحده) بما بين 6.7 و8.1 مليارات دولار، معلناً أن لبنان بات يحتاج بشكل عاجل إلى ما بين 605 و760 مليون دولار للنهوض مجدداً. هذا وقد ارتفع التضخم بشكل حاد، مسجلاً زيادة بنسبة 136.8% على أساس سنوي خلال تشرين الثاني الماضي، بحسب إدارة الإحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء. أما الخوف الأكبر أن تتوسع ظاهرة اقفال المؤسسات في غياب السيولة الضرورية للتمويل، وأن تظهر في العام 2021 سوق سوداء لليرة اللبنانية أو “ليرة المصارف وليرة السوق”، في تداول الشيكات المصرفية بالليرة اللبنانية بسبب ارتفاع الحاجة للسيولة النقدية!
الاحتياطي ورفع الدعم
مع تباطؤ تدفق الأموال من الخارج وتراجع النمو وشح الدولار في السوق المحلية وتزايد الحاجة إليه في ظل هبوط سعر الليرة اللبنانية، وجمود القطاع السياحي لتفشي جائحة كورونا، وضعف ثقة الشارع المحلي بالقطاع المصرفي، استُنزف الاحتياطي الإلزامي للبنوك في لبنان (وهو 15% من إجمالي الودائع) بسياسة الدعم لثلاثية السلع الأساسية (الدواء، المحروقات، القمح)، ودعم سلّة غذائية وضخ الدولار في سوق الصرف ودفع مصاريف الحكومة، وتزويد المصارف التجاريّة بالدولار. وبحسب الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة، إن المصرف المركزي يستنزف شهرياً من احتياطي النقد الأجنبي ما يعادل مبلغ الـ700 مليون دولار شهرياً حيث تبلغ احتياطيات النقد الأجنبي (من دون الذهب) نحو 19.6 مليار دولار متاحة، منها 17.5 مليار دولار لتغطية جزء من الودائع من قبل عملاء البنوك، و2.1 مليار دولار للدعم الذي يكلف 700 مليون دولار شهرياً. ووفقاً للميزانية العمومية لمصرف لبنان، انخفضت الموجودات بالعملات الأجنبية هذا العام في المصرف بقيمة 32% عن منتصف تشرين الثاني 2019.
أما تقديرات الإحتياطي الأجنبي فيُتداول أنها لا تزيد حالياً عن 15 مليار دولار بعدما كانت حوالى 30 مليار دولار عام 2019، علماً أن أرقام احتياطي الذهب لم تتغير وهي تقدر بحوالى 286 طناً، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. وتشير أرقام المعهد اللبناني لدراسات السوق (LIMS) أن خسائر المصرف المركزي قد بلغت 40 مليار دولار، منها 20 ملياراً خسرها بين عامي 2018 و2020. وتوقع البنك الدولي في تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، أن يعاني لبنان من “ركود شاق وطويل”، وأن يسجل انكماشاً اقتصادياً بنسبة 19.2% بنهاية العام 2020 بعد انكماشه بنسبة 6.7% عام 2019. وقال إنّ انهيار العملة أدى إلى “معدلات تضخم تجاوزت حد 100%”. فيما من المتوقع أن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 194% ارتفاعاً من 171% في نهاية 2019. لذا، التخوف الأكبر في 2021 أن يتم تخفيض الاحتياطي الإلزامي من 15% إلى 10% لمتابعة سياسة الدعم اي ببساطة “مواصلة التدهور”. وفي المقابل، تخوف آخر من رفع الدعم كلياً بدل ترشيده، مقابل تأمين بطاقات تموينية للعائلات الفقيرة والتي يرجح أن تدخل فيها المحسوبيات والمحاصصة السياسية!
Views: 7