كان من المفترض إغلاق ملف إدلب خلال فترة أقصاها شهران بعد التوقيع على اتفاق “سوتشي” بين الرئيسين رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين في 17 أيلول/سبتمبر 2018، ليساهم ذلك في دعم المسارات الأخرى على طريق الحل النهائي للأزمة السورية التي ازدادت تعقيداً بعد هذا الاتفاق.
فقد تصدى الرئيس إردوغان بعد ذلك التاريخ لمساعي الجانبين السوري والروسي لتحرير إدلب، وهو ما أوصل إلى حافة الحرب المباشرة، بعد أن نفد صبر الرئيس السوري بشار الأسد، فأمر الجيش السوري بتحرير البلدات القريبة من إدلب، ووجد نفسه في 27 شباط/فبراير الماضي وجهاً لوجه مع الجيش التركي. وانتهى ذلك التوتر باتفاق جديد في موسكو في 5 آذار/مارس الماضي، بعد الغضب الروسي على السلوك التركي الرافض كالعادة لأي عمل عسكري يستهدف مدينة إدلب.
ولم يمنع الغضب الروسي إردوغان من الاستمرار في مواقفه التقليدية للدفاع المستميت عن إدلب، مهما كان حجم الضغوط الروسية التي تصدى لها عبر المزيد من الحشود في المنطقة، على الرغم من قراره بالانسحاب من 8 نقاط مراقبة، وهي 3-4-5-8-9-10، بعد أن فقدت أهميتها كقوات ردع لأنها محاصرة من القوات السورية. وتستمر التحضيرات للانسحاب من النقطتين 6 و7 مع المعلومات التي تؤكد تعزيز نقاط المراقبة 1 و2 قرب عفرين، و12 غرب الطريق “M4″، و13 قرب جسر الشغور، والتي لن ينسحب منها الجيش التركي.
واعتبر الصحافي سادات أركين في مقاله في صحيفة “حرييات” في 27 كانون الأول/ديسمبر أن عملية الانسحاب تعد “تكتيكاً عسكرياً يهدف إلى ترسيخ التواجد العسكري التركي في المنطقة”. وقال: “لقد انتشرت القوات المنسحبة من نقاط المراقبة على طول الشريط الفاصل بين الجيش السوري والفصائل المسلحة التي تحمي إدلب جنوب الطريق M4”.
واعتبر أركين ذلك “أسلوباً عسكرياً جديداً للتعامل مع المعطيات المتغيرة على الأرض”، وقال: “بدلاً من نقاط المراقبة التي كان فيها عدد محدود من العساكر الأتراك (80-200)، رجّحت أنقرة إنشاء قواعد عسكرية ضخمة تحقق من خلالها أهدافها الاستراتيجية في المنطقة”.
ويفسر ذلك حجم التعزيزات التي دفعت بها إلى المنطقة، بعد أن وصل عدد القوات التركية في محيط إدلب إلى 15 ألفاً، وفق المعلومات الصحافية التي تتحدث يومياً عن نقل قوات إضافية إلى المنطقة. وقد زاد عدد الآليات العسكرية هناك على 6 آلاف من الدبابات والمدرعات والمدفعية والعربات المختلفة، مدعومة بكل أنواع الأسلحة بحراً وجواً، بما فيها الأقمار الصناعية وطائرات التجسس والطائرات المسيرة.
واعتبر سادات أركين كل ذلك “سداً منيعاً” يمنع الجيش السوري من القيام بأيّ عمل عسكري باتجاه الشمال مع حشود كبيرة في “M4” وغرب “M5″، وكل ذلك بالتنسيق والتعاون مع الجانب الروسي، والقول أيضاً لأركين، وهو معروف بعلاقته مع القيادات العسكرية والأوساط الحكومية معاً.
ويرى المراقبون في كل هذه المعطيات دليل على رغبة أنقرة في ترسيخ تواجدها العسكري، وبالتالي الاستخباراتي والتجاري والمالي والديني في المنطقة، على طريق “تتريكها”، كما هو الحال في باقي المناطق التي يتواجد فيها الجيش التركي منذ آب/أغسطس 2016، عندما دخل جرابلس، ومنها إلى الباب، ثم الراعي وأعزاز وعفرين.
وقد سبق لإبراهيم قالين، مستشار الرئيس إردوغان، أن قال “إن تركيا مسؤولة عن 7 مليون سوري”، ويقصد بذلك 3،5 مليون لاجئ في تركيا، والباقي يعيشون في المناطق المذكورة، وأكد الرئيس إردوغان أكثر من مرة “أنهم لن ينسحبوا منها إلا إذا طلب الشعب السوري منهم ذلك”.
وتثبت هذه المعطيات بكلّ وضوح أن أنقرة تراهن على عامل الزمن، فكلما تأخّر الحل في سوريا، سيحالفها الحظّ لتنفيذ أجندتها التي أعلن عنها الرئيس إردوغان أكثر من مرة في حديثه عن حدود الميثاق الوطني الذي يرى في الشمال السوري جزءاً من تركيا.
ويفسر ذلك تمسّك إردوغان بإدلب ودفاعه المستميت عنها، رغم كل الضغوط الروسية التي لم تحقق أهدافها، بانتظار التغيرات المتوقعة في المنطقة بعد دخول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض. وقد دفع ذلك أنقرة إلى حشد المزيد من القوات في المنطقة، ولو أدى ذلك إلى مواجهة مباشرة مع الجيش السوري أو القوات الروسية التي يعتقد إردوغان أنها لن تجرؤ على مثل هذه المواجهة لأسباب عديدة، أهمها أن تركيا على الحدود مع إدلب وعفرين وعموم الشمال السوري، فيما روسيا على بعد آلاف الأميال منها.
كما أن تركيا مدعومة بعشرات الآلاف من المسلحين من مختلف الفصائل، بما فيها “النصرة”، التي “سترد حينها الجميل” للرئيس إردوغان، وهو يحميها منذ اتفاق “سوتشي” الأول.
كما تحدثت وسائل الإعلام الغربية والروسية عن حصول هؤلاء المسلحين على ما يحتاجونه من الأسلحة والمعدات عبر الحدود مع تركيا، ولا منفذ لهم غير هذه الحدود، فيما الجيش السوري منشغل في أكثر من منطقة بعيداً منها.
وترى أنقرة في كلّ هذه المعطيات نقاط قوّة بالنسبة إلى حساباتها الخاصّة في الشمال السوري عموماً مع اقتراب التحركات الأميركية الجديدة في المنطقة، وفق رؤية الرئيس بايدن وفريقه العسكري والدبلوماسي المهتم بالشرق الأوسط.
وقد يدفع ذلك الرئيس إردوغان إلى استخدام التواجد التركي الكبير في إدلب وجوارها، كورقة يساوم بها بايدن، وذلك قبل أن يجلس على طاولة المفاوضات مع الرئيس بوتين من أجل صياغة جديدة للعلاقات الدولية.
ويعرف الجميع أنها ستبدأ وستنتهي في الجغرافيا العربية والإسلامية، ما دامت “إسرائيل” وتركيا فيها بكل عناصرها المهمة التي يسعى إردوغان إلى تسخيرها خدمة لمشاريعه العقائدية السياسية والاستراتيجية، من دون أن يبالي، والقول للمعارضة، بتكلفة المغامرات الجديدة في كل مكان، وخصوصاً سوريا، باعتبارها بوابة الخلافة والسلطنة العثمانية التي دخل عبرها السلطان سليم المنطقة في 24 آب/أغسطس 1516، وهو التاريخ الذي عاد ودخل منه الجيش التركي جرابلس قبل 4 سنوات، ليساعد ذلك إردوغان في تحقيق جميع برامجه التي حققها حتى الآن في سوريا، وعبرها في جميع مناطق العالم، ومعظم الفضل في ذلك للمسلحين في إدلب وجوارها، كما هو الحال في ليبيا وشرق الفرات، وأخيراً كاراباخ.
وكانت كل هذه “الانتصارات”، وستبقى، سبباً كافياً بالنسبة إلى إردوغان حتى يستمر في سياساته الحالية في سوريا.
ويعد ضمان نجاحها الرئيسي بقاء الوضع على ما هو عليه في إدلب. وقد بات واضحاً أن الجيش التركي لن ينسحب منها إلا بعد أن يحقق إردوغان كل أهدافه ومشاريعه في سوريا. ومن دونها، ستسقط كل حساباته الأخرى إقليمياً ودولياً.
الميادين نت
Views: 1