هل نقل سعد الحريري البُندقيّة من الكتف السعودي إلى الكتف التركي بزيارته المُفاجئة لإسطنبول واجتماعه المُغلَق مع أردوغان؟ وما هي الأسباب الستّة التي دفعته للإقدام على هذه “المُقامَرة” المحفوفة بالمخاطر؟ وكيف نُقيّم احتِمالات الرّبح والخسارة؟
القِيادة السعوديّة، والأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للرياض تحديدًا، لا يُمكن أن يقبل بهذا الخُروج “الاستفزازي” عن العُلاقات التاريخيّة بين بلاده وقادة الطّائفة السنيّة في لبنان، ومن قِبَل الشيخ سعد الحريري بالذّات الذي يحمل الجنسيّة السعوديّة بالوَلاء والوِلادة، ويذهب في هذا التّوقيت إلى إسطنبول المُنافس الأكبر للمملكة على الزّعامة السنيّة في العالمين العربي والإسلامي، ويلتقي بالرئيس أردوغان.
السيّد الحريري لم يذهب إلى إسطنبول الخصم الأخطر للمملكة بعد اعتِقاله، وإهانته، وإجباره من قبل الأمير بن سلمان على بث بيان على شاشات التّلفزيون يُعلن فيه استقالته من الحُكومة اللبنانيّة في حينها، وفضّل أن يتوجّه إلى فرنسا، التي يحمل جنسيّتها أيضًا عُرفانًا بدورها في الإفراج عنه، عبر بوّابة القاهرة التي توقّف فيها في لفتةٍ سياسيّةٍ تنطوي على الكثير من المعاني وتُوجِّه الكثير من الرّسائل، وما نُريد قوله إنّ الرئيس الحريري فضّل مرجعيّة “الأزهر” على مرجعيّة “الأستانة” في حينها.
السّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ يتعلّق بالأسباب التي دفعت الشيخ الحريري على الإقدام على هذه الخطوة المُفاجئة، وفي مِثل هذا التّوقيت؟
هُناك عدّة أسباب يُمكن أن تُفَسِّر هذا التحوّل الإقليمي وليس اللّبناني فقط، وما يُمكن أن يتَرتّب عليه من انعكاساتٍ مُستقبليّةٍ، سِياسيًّا وطائفيًّا على مِنطقة الشرق الأوسط برمّتها نُوجِزها في النّقاط التّالية:
-
الأوّل: رِهان المملكة العربيّة السعوديّة، والأمير محمد بن سلمان حاكِمها الفِعلي على الشيخ بهاء الحريري كبديلٍ لشقيقه الأصغر الشيخ سعد، والزّج به إلى السّاحة اللبنانيّة، في كسرٍ لاتّفاقٍ مُسبَقٍ استَمرّ حوالي 15 عامًا أيّ مُنذ اغتِيال الرئيس رفيق الحريري مُؤسّس الحريريّة السياسيّة، وكان يَنُص على تتويج الشيخ سعد للخِلافة السياسيّة، وتَفرّغ شقيقه الأكبر لإدارة مشاريع العائلة “البزنزيّة” في السعوديّة، فرُغم مُحاولة نِسيان الشيخ سعد و”غُفرانه” لمن احتجزه وأذلّه، أيّ الأمير بن سلمان وبذله جُهودًا كبيرة لـ”تطبيع” العُلاقة معه، إلا أنّ كُل هذه “التّنازلات” لم تُعطِ ثمارها، فقد اتّخذ الأمير القرار بإفلاسه وشركاته، وتجفيف “كُل” مصادره الماليّة، وجاءت الضّربة القاضية باستِبداله بشقيقه الأكبر كحليفٍ أساسي للمملكة مثلما يَحدُث حاليًّا على الأرض.
-
الثاني: ذهاب الشيخ سعد إلى المرجعيّة “السنيّة” التركيّة جاء بعد أن طلب ثلاث مرّات اللّقاء بالأمير بن سلمان الذي كان يعتبره صديقًا، ولقطات صُور السّلفي في باريس وغيرها التي التقطها معه، والابتِسامات العريضة ما زالت ماثلةً في الأذهان، ولكنّه لم يَجِد ردًّا على الإطلاق ممّا يُؤكّد أنّ الأمْر حُسِم لغير صالحه فيما يبدو، مثلما تُفيد همَسات بعض المصادر السياسيّة المُقرّبة منه.
-
الثالث: الرئيس أردوغان كان يُخَطِّط مُنذ فترة للوصول إلى الطّائفة السنيّة اللبنانيّة، وكسبها إلى جانبه، في إطار خطّته للتَّربُّع على عرش الزّعامة الإسلاميّة السنيّة، وبدأ من نافذة مدينة طرابلس في الشّمال البعيدة عن نُفوذ وسيطرة أسرة الحريري، وحقّق اختِراقًا كبيرًا في هذا المجال، وإذا جرى ترجمة لقائه مع الشيخ سعد الأخير إلى تحالف استراتيجيّ، فإنّه، أيّ الرئيس أردوغان، سيتَمكّن من السّيطرة على مُعظم الطّائفة السنيّة اللبنانيّة بشَقّيها الشّمالي (طرابلس) والجنوبي (بيروت وصيدا) وما جاورهما، وخلط الأوراق والتّحالفات في لبنان.
-
الرابع: في ظِل الخِلاف التّركي السّوري، ورفض الحريري زيارة دِمشق، والتّواصل مع الحُكومة السوريّة وأبرز حُلفائها في لبنان باعتِبار هذا خطًّا أحمر، سواءً عندما كان داخِل السّلطة، أو بعد مُغادرته لها، فإنّ وقوفه في الخندق التركي المُعادي لسورية يُقَدِّم لبنان، أو الشّق السنّي منه، هديّةً قيّمةً للرئيس أردوغان وحُلفائه في قطر، وحركات الإسلام السّياسي، والإخوان المُسلمين على وجه الخُصوص في العام الجديد.
-
الخامس: إقدام شقيقه بهاء على نسج تحالفات قويّة مع الأطراف السنيّة اللبنانيّة الأُخرى المُنافسة للشيخ سعد، وإقامته عُلاقات جديّة مع دِمشق، وامتِلاكه المِليارات بدَعمٍ سعوديّ، وما زِلنا نتحدّث عن الشيخ بهاء، وتأسيسه امبراطوريّة إعلاميّة وظّفت العديد من نُجوم النّخبة الإعلاميّة اللبنانيّة، وكلّها عوامل شدّدت الخِناق على الشيخ سعد، وأغلقت مُعظم الأبواب في وجهه، ودفعته للإقدام على خطوة شد الرّحال إلى إسطنبول لانعِدام البدائل.
-
السّادس: وصول جو بايدن لرئاسة أمريكا الدّاعم الأكبر للأقليّات و”الديمقراطيّات” في المِنطقة، والكُرديّة على وجه الخُصوص التي يُؤيّد قِيام دولة لها، والمعروف بعدم ارتِياحه للرئيس أردوغان، وقِيادات كُل من مِصر والسعوديّة ودول خليجيّة أُخرى محسوبة على إدارة سلفه ترامب، ومُجاهرته بالعودة إلى الاتّفاق النّووي الإيراني مع إيران وإجرائه اتّصالات سريّة مع القِيادة الإيرانيّة، وهذه المُؤشّرات قد تَخلِق تحالفات وخرائط جديدة في المِنطقة.
لا نَعرِف ما هي الحِسابات التي أجراها الشيخ سعد قبل الإقدام على هذه “المُغامرة” المَحفوفة بالمخاطر في نظر الكثيرين، وبعضهم من أتباعه، وما هي النّتائج التي توصّل إليها، فالذّهاب إلى أردوغان وعقد اجتماع مُغلق معه لأكثر من ساعتين لم يَكُن للحديث عن تغيّرات الطّقس المناخي، أو انتشار فيروس الكورونا، ولا بُدّ أنّهما بحثَا وضع خريطة عمل مُشتركة للبنان والمِنطقة، فالرئيس الحريري ذهب مُستَجيرًا طالبًا المعونة، والرئيس أردوغان مُستَعِدٌّ للمُساعدة ولكن ليس مجّانًا، فماذا سيُقدّم له ضيفه اللبناني من تنازلات؟ ونعترف أن تركيا دولة قويّة، وتدخّلت عسكريًّا لنُصرة حُلفائها في ليبيا وسورية وأذربيجان، فهل ستتدخّل عسكريًّا لنُصرة الوافِد الجديد إلى مَرابِعها؟
الرئيس الحريري لا يُمثّل كُل السنّة في لبنان وله خُصوم كُثر، ويُواجِه خُصومًا أقوياء في الوسَطين الإسلامي بشقّيه السنّي والشّيعي، والمسيحي أيضًا، وفوق هذا وذاك قد يخسر مِصر والسعوديّة والإمارات والبحرين إلى جانب ما خسرهم فِعلًا بوقوفه ضدّ محور المُقاومة مِثل العِراق وسورية وإيران، والآن اليمن بشقّيه السّعودي والحوثي.
ما زال من السّابق لأوانه إعطاء أحكام جازمة لنتائج هذه الخطوة الحريريّة المُفاجئة، والقول إنّ الشيخ سعد وضع كُل بيضه في سلّة أردوغان، والحديث عن احتِمالات الفشل والنّجاح، ولكن هذا لا يمنع من التّأكيد على أنّها “مُقامرة” محفوفة بالمخاطر قد تضع عقبات جديدة أمام جُهوده لتشكيل الحُكومة اللبنانيّة الجديدة، وإلقاء الكثير من ظِلال الشّك على مُستَقبله السّياسي بالتّالي.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Views: 1