من النفط للأدب
كان لا يمكن لك أن تتعرف على القاص والصحفي جمال عبود إلاّ ويحجز له داخل قلبك حاكورة لا تعرف مساحتها، وسرعان ما تزداد، حتى تحبّه بكامل مشاعرك وعقلك, فهو يحترم حتى الذين هم أصغر منه بالعمر وبالمهنة، من دون أي افتعال، لأن داخله إنسان حقيقي، لا يتعصب لفكرة ما أو يقدس شيئاً ما. لقد تغلّب لدى الراحل جمال حب الأدب والكتابة على تخصصه العلمي الأول، إذ درس في معهد تابع لوزارة النفط، فتابع فيما بعد تحصيله العلمي ودرس الأدب العربي في بيروت على مراحل، ونال الماجستير في دمشق، وبدون ضجيج نال درجة الدكتوراه في الأدب بأطروحة “التعبيرية والملحمية في المسرح والسينما السورية”. ولم يتباهَ بحرف الدال يوماً على غرار بعض الذين لا يملكون غيرها، فتواضعه لم يتغيّر .. عمل الراحل في مشوار حياته الصحفية الذي بدأ من الصحف اللبنانية إبان دراسته في بيروت، محرراً ثقافياً في صحيفة البعث، ثم انتقل لملاك وزارة الثقافة وعمل مديراً لتحرير مجلة “شرفات الشام”، كتب فيها مقالاً دائماً على الغلاف الداخلي الأخير، وفي فترة لاحقة رئيساً لتحرير مجلة الحياة المسرحية، ثم مدرساً في المعهد العالي للفنون المسرحية.
لم يكن يقدم ذاته المبدعة كقاص فوراً على غرار بعض الذين يشتغلون في الأدب من أجيال تالية أو حتى موازية، بل يجعلك تكتشف ذلك، رغم أنه كتب القصة الساخرة المتميزة بشهادة أدباء ودارسين من مثل: سعيد حورانية، د.شاكر مصطفى، شوقي بغدادي، د. قاسم المقداد، عبد الرحمن الحلبي، وأنجز خلال مسيرته الأدبية خمس مجموعات قصصية،( مصرع التمثال، أخبار المنزل، غلطان يا بطيخ، حكي بردانين، فاتني أن أقول لكم) وكتاب بعنوان مقدمة في النقد (قراءات نقدية).
ساخر بالفطرة
أذكر ما إن تعارفنا في مبنى صحيفة البعث في أول تسعينيات القرن المنصرم حتى دعاني لمنزله، وطلب مني إعداد الشاي بينما انصرف هو لإعداد طعام الغداء، فحاولت التملّص من ذلك بحجة أن الوقت مبكر، ووعدت بأن تكون هذه مهمتي بعد تناولنا الغداء، فما كان منه إلاّ أن قال لي هذه طريقتكم “أنتم الحماصني”، فنحن “الشوايا” نجّهز للشاي مع إعدادنا لوجبة الغداء. ضحكنا، وحفظت الدرس كلما استضافني في منزله. بالمناسبة أخي جمال هل حقاً رحلت؟ لقد أكلت وشربت وتدفأت وتنعمت بالراحة، بفعل يديك، وسهرنا ليالي طوالاً مع حوارات وذكريات وأشجان كثيرة، بفعل حرارة قلبك وعقلك، فكيف لي أن أصدق للحظة أنك مضيت، ولم يعد بإمكاني التوجه لحي “دمر البلد” لنعقد ليالي سمر جديدة..؟ وهل صحيح أنك لن ترافقني مجدداً لمشاهدة نشاط مسرحي أو سينمائي أو ندوة، لنختلف في بعضها؟ كم شربنا الشاي مراراً في مبنى صحيفة البعث ولأنه من يديك كنت أشربه بمتعة وأنا أمنّي نفسي بفنجان قهوة، أحاديثك الشائقة كانت طيبة, أين مضيت؟ فثمة شباب أيضاً، لا بد من أن يتعرفوا عليك خلال مشوار حياتهم ومن المؤكد أنهم سيشكون لك همومهم ومتاعبهم وستبادر لمساعدتهم من دون أن يطلبوا منك ذلك، كما فعلت معي ومع غيري. كنت تقدم المساعدة إن استطعت، كأنها واجب إسعافي لمريض ما. مضيت ولايزال معظم الذين يكذبون علينا يكذبون أن يوم الغد أفضل وأن خدمات مؤسسات بعينها ستتحسن، مضيتَ فمن سيصرخ بوجه هذا أو ذاك كلما حاول تمويه المشكلة والنفاق علينا وبيعنا الأوهام، بصوت عالٍ: “غلطان يا بطيخ ” نحن نعرف أسّ المشكلة ولن تخدعنا..؟!. يقول عنك الشاعر والأديب شوقي بغدادي في مقدمة مجموعة (غلطان يا بطيخ) “إنه قصاص ساخر بالفطرة في أعمق أعماقه من الناس والأشياء، ولكنه في الوقت ذاته يوحي لك أنه مؤمن كل الإيمان بالقيم الإنسانية الرفيعة ويطمح لخدمتها ولكن من دون تبجح أو مزاودة. إنه قصاص يذهب إلى هدفه بشكل يشبه النزهة المرحة الطليقة التي لا هدف لها سوى النزهة، وكأنه كاتب يلعب ولا هدف له سوى اللعب، ومع ذلك فهو يتسلل إليك في النهاية ليطرح إدانته المتسترة للبشاعات والتفاهات من حوله، أو تمجيده للفضائل الروحية التي لم تنقرض بعد.. ويؤكد هذه المزية د.شاكر مصطفى في مقدمة المجوعة الرابعة للراحل عبود (حكي بردانين) قائلاً: القاص جمال عبود يكتب على سجيته ومن خلال تكوينه النفسي، تماماً كما يسير ويتنفس على السجية ضمن آليته الفيزيولوجية, إنه يطرح قصصه من دون تأنق، على أنه يبدو في قصصه وكأنه يحدّثك حديث الذات.
يفرغ نفسه على الورق وفاء ورقّة
أزعم أنك أول أديب وضع صورته برسم كاريكاتوري على غلاف كتابه القصصي “حكي بردانين”، بريشة الفنان حسين إدلبي، فأغلبنا يحب أن يظهر بلقطة جميلة وبكل ما استطاع من وسامة، لمحاولة جذب معجبات وليس قارئات، أو للتأكيد على ارتفاع منسوب النرجسية التي لم تعرف لك أي درب، فأمثالك الذين يحبون الناس ويمزحون، لا يتآلف “نرسيس” معهم مطلقاً. ولأنك لا تحب الإطراء كثيراً فقد تقول: إنني بالغت فيما كتبت ولذلك سأقرأ لك ما كتبه صديقنا المشترك الشاعر اللبناني شوقي بزيع: (رغم أنني لم ألتقِ به منذ سنوات، فمن الصعب أن ينسى المرء شخصاً بمواصفاته، حيث يلتقي الوفاء بالرقة وكبر النفس بالتواضع والثراء المعرفي… له الرحمة).
رنين
وحتماً ستبقى كلماتك ترن في ذاكرتي عندما كنت تمازحني كلما هاتفتك، لأقول لك سآتي لعندك بعد أن أذهب لبيت خالتي لساعتين، فتقول لي:( والله يا حومصي أنت الوحيد اللي بيروح ع رجليه) ونضحك. والآن وبعد أن هاجرت الخالة ومضيت أنت برحلتك الأخيرة فلا مزاح ولا دفء فكأني خسرت قلعتي في دمشق!
Views: 1