قضايا عدّيدة تطرّق إليها قادة الديموقراطيات العتيدة السبع، خلال قمّتهم في منتجع «كورنوال» في بريطانيا، من التغيّر المناخي إلى تلك المتّصلة بإصلاح النظام الضريبي العالمي، مروراً بالأزمة الصحية العالمية، وبوعود قدّموها لبقية بلدان المعمورة، خصوصاً الواقعة في جزئها الجنوبي، بتوفير ما لا يقلّ عن مليار جرعة من اللقاحات المضادة لفيروس «كورونا». غير أن التصدي لـ»التحدّي الصيني» احتلّ حيّزاً أساسياً في جدول أعمالها. هي المرّة الأولى التي يَرِد فيها ذكر الصين في بيان صادر عن المجموعة، ويجري التشديد فيه على ضرورة اعتماد سياسة مشتركة حيال توجّهاتها الاقتصادية والتجارية، و»انتهاكاتها لحقوق الإنسان»، والإعلان عن مشروع مضادّ لـ»الحزام والطريق»، وهو مشروع «إعادة بناء عالم أفضل»، من قِبَل القوى التي سيطرت عليه، وصاغته وفقاً لمصالحها، حتى زمن ليس ببعيد.
لم تُخفِ أيّ إدارة أميركية، منذ خطاب الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الشهير، في عام 2012، عن «الاستدارة نحو آسيا»، أن الصراع الجيوسياسي والأيديولوجي والتكنولوجي مع الصين بات بمثابة «التناقض الرئيس» بنظر القطاع الأعظم من النُخب الأميركية، ومن الدولة العميقة. واليوم، يحرص بايدن، كما رأت صحيفة «نيويورك تايمز»، على أن تكون «مجابهة الهيمنة الصينية حجر زاوية سياسته الخارجية». عداء الولايات المتحدة المسعور للصين، الناجم بداهة عن تمسّكها بموقعها المهيمن على الصعيد الدولي، وسعيها للتصدّي لصعود أيّ قوة منافسة، شأنُها في ذلك شأن الإمبراطوريات التي سبقتها، يسهُل فهمه. لكن ما لم يتّضح كفاية، هو الخلفية الفعلية لمواقف حلفاء واشنطن في «مجموعة الدول السبع»، ومدى اتّساق مصالحهم مع الاستعداد للانقياد الكامل خلفها في معركتها مع بكين.
في تقرير بعنوان «الاتجاهات العالمية 2040»، أكد المجلس الوطني للاستخبارات، الذي يضمّ أهمّ الأجهزة الأمنية الأميركية، أن «انتشار القوة في النظام الدولي سيتطوّر ليشمل مجموعة أوسع من المصادر، ولكن لن تكون دولة واحدة في موقع يسمح لها بالسيطرة على جميع مناطق العالم، أو بالتفوّق في جميع الميادين. سيكون للولايات المتحدة والصين التأثير الأكبر على الديناميات العالمية، ممّا سيُجبر بقيّة اللاعبين على الأخذ بخيارات أكثر وضوحاً وجلاء، ما سيزيد التفلّت من المعايير والقواعد والمؤسّسات الدولية، والتحايل عليها، ويضاعف احتمالات النزاع بين الدول». بكلام آخر، وأقلّ دبلوماسية، ستحاول الولايات المتحدة أن تفرض على بقيّة دول العالم، بما فيها حلفائها، عبر وسائل الترهيب قبل الترغيب، والضغوط «القصوى» والمتوسّطة، الانخراط في جبهة بقيادتها معادية للصين. لكن اللهجة الحادّة المستخدمة في بيان القمّة الأخيرة لـ»مجموعة الدول السبع» تجاه الصين، لا تُخفي تباينات حقيقية بين مواقف تلك الدول، ترتبط أساساً باختلاف مصالحها. والمعلومات التي رشحت عن هذه القمّة، ونسبتها صحيفة «واشنطن بوست» إلى مسؤول أميركي، تشي بوجود مثل هذه التباينات. فبينما أيّدت فرنسا وبريطانيا وأستراليا التوجّه الأميركي، كانت لألمانيا وإيطاليا، وحتى اليابان، مقاربات أكثر تحفّظاً حياله. وحتى من دون الاستناد إلى المعلومات الخاصة، بدا التمايز واضحاً.
الحرص البريطاني على التطابق مع السياسة الأميركية تجاه الصين، أو روسيا، أو أيّ ملف دولي آخر، ليس جديداً. و»الخوف» الأسترالي من دور الصين المتعاظِم، والاندراج في الاستراتيجية الأميركية لاحتوائه، أصبحا ضمن ثوابت النخبة الحاكمة في هذا البلد، الذي أشهر منه أوباما استراتيجية «الاستدارة». لكن اللافت هو موقف فرنسا التي تتبارى نُخبها السياسية والثقافية في إطلاق التصريحات والتحليلات المعادية للصين، واتخاذ خطوات عملية تُترجِم مثل هذا العداء، كان آخرها مشاركة البحرية الفرنسية، للمرّة الأولى، في مناورات إلى جانب تلك الأميركية واليابانية والأسترالية، في بحر الصين الشرقي، في أيار الماضي. عكست لورانس نادرون، الباحثة في «المركز الفرنسي للعلاقات الدولية»، المقرّب من الأوساط الرسمية، هذه الرؤية المهجوسة بـ»التهديد الصيني»، عندما اعتبرت أن «مسؤولية تاريخية تقع على عاتق الديموقراطيات في التوحّد في إطار جبهة واحدة دفاعاً عن مبادئهم، في الوقت الذي لا يتردّد فيه عدد من الأنظمة الشمولية في إظهار استخفافه بحقوق الإنسان ودولة القانون». لكن خطاب القيَم المجرّدة، والذي يصلح عادة كمقدّمة لطرح الدوافع الفعلية للخيارات السياسية، سرعان ما يُخلي المجال أمام كيل المدائح لفريق بايدن «الأوروبي الهوى»، مع ما يعنيه ذلك من رهانٍ على إمكانية تحصيل بعض المكاسب، ولو من موقع أدنى، نتيجةً للسير خلف واشنطن.
غير أن دولاً أخرى، محورية، كألمانيا في أوروبا، وإيطاليا أيضاً، وكذلك اليابان، ونظراً إلى كتلة المصالح الضخمة التي تجمعها بالصين، على مستوى العلاقات الاقتصادية والتجارية، غير متحمّسة للمشاركة في استراتيجية احتواء الصين، أكانت على المستوى الاقتصادي والتجاري، من خلال مشروع «إعادة بناء عالم أفضل»، الهادف إلى منافسة مشروع «الحزام والطريق» عبر العالم، أم على المستوى العسكري، عبر الانتشار أو المشاركة في مناورات في جوارها. لن تنجح واشنطن في حجب التمايزات الموضوعية في المصالح القائمة في داخل جبهتها، بينما للصين علاقة شراكة استراتيجية تتعزّز باطّراد مع روسيا وعدد كبير من دول الجنوب الوازنة والمناهضة للهيمنة الأميركية. وما يرتسم في الأفق، هو مواجهة غير مضمونة النتائج بالنسبة إلى من يظنّ أنه ما زال في موقع يسمح له بتقرير مصير العالم بمفرده
Views: 3