الكاتب: عربي بوست
في مسعى جديد لترسيخ العلاقات الهندية الإفريقية، أجرى وزير الخارجية الهندي، سوبرامانيام جايشانكار، هذا الأسبوع زيارة إلى كينيا كي يشارك نظيرته الكينية، راشيل أومامو، في ترؤس الاجتماع الثالث للجنة الهندية الكينية المشتركة. وتُسلِّط زيارته إلى الجارة ذات الموقع الاستراتيجي على الضفة الأخرى من المحيط الهندي الضوء على الأهمية التي توليها الهند لعلاقاتها مع كينيا. فلا تنظر نيودلهي إلى البلد باعتباره بوابة لإفريقيا القارية وحسب، بل ويستضيف البلد أيضاً 80 ألف شخص يُصنَّفون رسمياً باعتبارهم أشخاصاً ذوي أصول هندية (بينهم 20 ألف مواطن هندي).
وناقش ممثلو البلدين خلال الزيارة مجموعة من القضايا الثنائية والإقليمية والعالمية، بينها شراكة التنمية، وتقديم الرعاية الصحية، وضمان الأمن البحري في منطقة المحيط الهندي.
ويقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأميركية إن هذه المباحثات في وقتٍ تتطلع فيه الهند لترسيخ اتصالها ونفوذها بإفريقيا من خلال الزيارات الدورية والمستمرة رفيعة المستوى لتعزيز صورتها باعتبارها واحدة من أهم شركاء التنمية في إفريقيا.
وتُعَد حقيقة إبقاء الهند خطوط إمداداتها مفتوحة طوال معظم فترة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) وضمانها وصول الإمدادات بالغة الأهمية من الأدوية والمعدات الطبية إلى البلدان المحتاجة في إفريقيا شاهداً على رغبة الهند لتصبح شريكاً موثوقاً وثابتاً، ولو أن الهند اضطرت لوقف تصدير لقاحات أسترازينيكا بحلول نهاية مارس/آذار الماضي، حين واجهت موجة ثانية فتاكة من الفيروس. وقد وجَّه ذلك ضربة كبرى لبرامج التطعيم في البلدان الإفريقية، التي كانت تعتمد في الغالب على الإمدادات من برنامج مشاركة اللقاحات العالمي “كوفاكس”.
وعلى الرغم من التعامل مع تحديات متزايدة في الداخل، أيدت الهند إلى جانب جنوب إفريقيا التنازل عن براءات الاختراع للقاحات بمنظمة التجارة العالمية بهدف زيادة قدرة الدول النامية على تصنيع لقاحات كوفيد 19 والمنتجات الطبية. ويحظى مقترح الهند وجنوب إفريقيا الآن بدعم الولايات المتحدة بعد أشهر من التردد من جانب إدارة بايدن. وربما تكون جهودهما المشتركة بخصوص هذا التحدي العالمي مؤشراً على أمور مقبلة.
دعمت الهند منذ نيلها الاستقلال النضالات التحررية المناهضة للاستعمار والعنصرية في إفريقيا. وفي حين كانت العلاقة المبكرة مبنية على إرث الاستعمار، أدَّت موجة من التحرر (اللبرلة) والخصخصة في الهند في التسعينيات إلى تحول حاسم في انخراطها مع إفريقيا نحو مسائل تجارية واقتصادية. لكن بالرغم من الانخراط القوي لأكثر من 70 سنة، لم يكن لدى الهند في الحقيقة استراتيجية واضحة طويلة الأجل لتطوير علاقاتها الأوسع مع القارة. وفشلت الهند في الغالب في الاستفادة من النوايا الحسنة الهائلة التي تتمتع بها هناك.
لكن ربما يتغير هذا حالياً. فمع تراجع القضايا الأيديولوجية والسياسية، بثَّت العلاقات الاقتصادية، ومؤخراً الأمنية، حيوية جديدة إلى هذه العلاقة.
وأبرز مثال على هذا هو إقامة “قمة منتدى الهند-إفريقيا” الذي ساعد على إضفاء الطابع المؤسسي والرسمي على علاقات الهند مع شركائها الأفارقة. وعقدت هذه المنصة حتى تاريخه 3 قمم (في 2008 و2011 و2015)، وفَّرت للهند والبلدان الإفريقية منصة للانخراط البناء. ومن المتوقع أن تنعقد الدورة الرابعة للقمة في موريتانيا في وقتٍ لاحق من هذا العام 2021.
ومن الإنجازات المهمة الأخرى وضع 10 مبادئ إرشادية لانخراط الهند مع إفريقيا خلال خطاب رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، أمام البرلمان الأوغندي في تموز 2018. وتعكس هذه الركائز تغيراً في التفاصيل الدقيقة لأولويات الهند. فعلى سبيل المثال، يؤكد ممثلو الحكومة والقطاع الخاص الهندي باستمرار رغبة الهند في جعل شراكاتها جامعة ومرتكزة على الشعوب ومستدامة وشفافة ومحكومة بالاحتياجات والأولويات الإفريقية.
وتُشكِّل هذه المبادئ الأساس لاستراتيجية متماسكة وشاملة. ويُضاف إلى ذلك المخاوف الأمنية. إذ تعتبر الهند البلدان الإفريقية، لاسيما تلك التي لديها شواطئ تطل على المحيط الهندي، جزءاً بالغ الأهمية من استراتيجيتها تجاه منطقة المحيطين الهادي والهندي. وتتشاطر الهند تاريخاً ثرياً من التجارة البحرية مع هذه البلدان على وجه الخصوص، ووقَّعت اتفاقيات دفاعية وفي مجال الشحن مع الكثير منها.
كانت البلدان الإفريقية، إلى جانب بلدان الجوار المباشر للهند، على مدى العقدين السابقين محل تركيز معظم المساعدة التنموية لنيودلهي من خلال خطوط الائتمان المُيسَّرة والمنح ومبادرات بناء القدرات. وعلى عكس الاقتراض من الصين –بل وحتى من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- فإنَّ خطوط الائتمان الهندية تأتي مدفوعة بالطلب، وتحظى بمشاورات، وشفافة، وغير مشروطة. وقدَّمت الهند منذ عام 2002 وحتى شباط الماضي 11 مليار دولار من الامتيازات للقارة. هذا إلى جانب مِنح المساعدات بمئات الملايين والمنح الدراسية للطلاب الأفارقة.
نمت كذلك الشراكة التجارية والاستثمارية في السنوات الأخيرة. إذ نمت التجارة الهندية الإفريقية من 51.7 مليار دولار في 2010/2011 إلى 66.7 مليار دولار في 2019/2020. وزادت خلال نفس الفترة صادرات إفريقيا إلى الهند أيضاً بنحو 5 مليارات دولار. ويأتي نحو 8% من واردات الهند من إفريقيا، في حين يأتي 9% من واردات إفريقيا من خارج القارة من الهند. وتستثمر شركات القطاع الخاص والعام الهندي أيضاً في إفريقيا، ما يجعل الهند ثامن أكبر مستثمر هناك.
وإلى جانب القروض والاستثمارات، ساعدت الهند أيضاً إفريقيا في معركتها ضد كورونا. فوفقاً لجايشانكار، “منحت الهند 150 طناً من المساعدات الطبية لـ25 بلداً إفريقياً. وبموجب مبادرة “لقاح مايتري”، قدمت 24.7 مليون جرعة من لقاحات كوفيد التي صُنِعَت في الهند في صورة منح ولقاحات تجارية ولقاحات ضمن برنامج (كوفاكس) لـ42 بلداً في إفريقيا، ومع أنَّ هذه الإمدادات توقفت مؤقتاً، سيستأنف “معهد الأمصال الهندي” تصدير جرعات لقاح أسترازينيكا هذا الصيف.
وفي حين تمثل هذه التطورات مؤشراً على الالتقاء المتزايد بين أجندة النمو الهندية و”أجندة 2063″ الإفريقية، التي تمثل أهداف التنمية الخاصة بالاتحاد الإفريقي على مدى النصف قرن المقبل، من المهم الاعتراف بأنَّ الهند مجرد شريك واحد ضمن قائمة طويلة من شركاء التنمية الذين يتطلعون للانخراط مع إفريقيا بصورة هادفة. وأحد هؤلاء المنافسين هي الصين، التي برزت باعتبارها أكبر شركاء إفريقيا التجاريين والاستثماريين. وفي حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بصورة مستقلة عن بعضهما البعض، يوجد عنصر تنافس واضح.
ففي حين ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل في تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، تركز نيودلهي على أوجه الكفاءة الأساسية لديها في مجالات تنمية الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية. كان توجه الصين لبناء البنية التحتية في مختلف أرجاء القارة يلقى ترحاباً بلا شك. لكنَّ مشروعات البنية التحتية العملاقة لن تؤتي آثارها التحويلية المرغوبة إلا إذا أمكنها خلق فرص العمل، وتوفير العائدات، وجذب الاستثمارات، والمساهمة في تطوير القدرات الإنتاجية المحلية. غير أنَّ الشركات الصينية كثيراً ما تُتَّهم بتوظيف عمالة صينية في الغالب وتقديم القليل من التدريب وتطوير المهارات للعمالة الإفريقية. ومن ثَمَّ تنطوي بعض مشروعات البنية التحتية على خطر التحول إلى مشروعات خيلاء بلا جدوى اقتصادية.
وهنا تظهر الهند. فعلى عكس الجهود الصينية، تهدف مشروعات البناء والتمويل الهندية في إفريقيا لتسهيل المشاركة والتنمية المجتمعية. وتعتمد الشركات الهندية أكثر على الموهبة الإفريقية، ولدى الهند أيضاً بعض الأفضليات الأخرى على الصين. ووفقاً لاستطلاعات معهد Afrobarometer، فإنَّ نجاحات النموذج السياسي – الاقتصادي الصيني جذابة، لكنَّ الدعم العام للديمقراطية في إفريقيا مرتفع.
وتلعب الهند على مواطن قوتها من خلال إظهار نفسها باعتبارها نموذجاً مختلفاً عن الصين. ثانياً، تملك الهند ميزة إضافية تتمثل في التقارب اللغوي والثقافي والقرب الجغرافي. وفي حين تصبح لغة الماندرين الصينية رويداً رويداً رائجة بين الأجيال الأكثر شباباً، ما تزال اللغة الإنجليزية أكثر انتشاراً وبفارق كبير في أرجاء إفريقيا وفي الهند أيضاً. يجعل هذا تحدث المقاولين والعمال الهنود مع الشركاء المحليين أسهل بكثير. فضلاً عن ذلك، كان الشتات الهندي في إفريقيا، والذي يُقدَّر بأكثر من ثلاثة ملايين شخص، من الأصول الاستراتيجية الحاسمة لجسر الهوة بين الجغرافيتين.
تملك الهند والصين مصالح متنامية في إفريقيا في ظل سعيهما للاصطفاف بنفسيهما إلى جانب قصة النمو في القارة. وهما تتنافسان مع بعضهما البعض جغرافياً بصورة متنامية. تأمل نيودلهي أن يعود انخراطها المستمر مع البلدان الإفريقية على مدى السنوات القليلة الماضية بمنافع على السياسة الخارجية. وإذا ما أتى الانخراط بين الهند وشركائها الأفارقة أكله، قد يعني ذلك وجود علاقة قائمة على نموذج للشراكة. وفي ظل اتساع الخطوط الفاصلة بين القوى الكبرى في مختلف أنحاء العالم، ربما يكون انخراط الهند المتنامي مع إفريقيا قادراً على جلب المزيد من الفوائد العادلة لكلا الشريكين، كما تقول مجلة فورين بوليسي.
Views: 1