المهندس: ميشيل كلاغاصي
تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى عالمياً في نشر وتواجد قواعدها وجنودها حول العالم , وتستفيد من تواجدهم سواء تم تكليفهم بمهام تحت عنوان فرض النفوذ والهيمنة , أو بمهام قتالية ساخنة , وهذا يخضع لحساباتها في شن الحروب أو لشكل تدخلها العسكري اللاشرعي في شؤون الدول , ومما لا شك فيه بأنها لا تقحم قواتها العسكرية في حروبٍ تعتقدها خاسرة مسبقاً بشكل حسابي , ولا يمكنها تحمّل تبعات مقتل جنودها خارج حدودها باّلاف الأميال , ناهيك عن التكاليف الباهظة التي تتطلبها الحروب .
إن تواجد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط , من خلال التمركز والقيام بمهام دفاعية وهجومية ولوجستية , جاء ليحقق حزمة كبيرة من الأهداف السياسية والعسكرية والإقتصادية , وفي الوقت الذي تبدأ فيه واشنطن بمناقشة جدوى بقاء قواتها في الشرق الأوسط , أو رحيلها , والثمن الذي يتعين عليها دفعه مقابل عواقب قرار إنسحابها منه, يدفعنا للسؤال , هل حققت جميع أهدافها , ولم يعد لها مهام مستقبلية في المنطقة , وهل هي جادة في الخروج من قلب الشرق الأوسط ؟.
يبدو أن الطبيعة البراغماتية للسياسة الخارجية الأمريكية , دفعتها نحو إعادة تقييم وجودها العسكري , من خلال فشلها في تحقيق غالبية أهدافها , وانعكاس بعض النتائج سلباً على ميزان الربح والخسارة الأمريكي الإجمالي , وباتت تفكر بالحفاظ على مكاسبها , وبإغلاق العديد من قواعدها العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وسحب الأساطيل البحرية غير الضرورية المتمركزة في دول الخليج العربي, وبإستبدال أدوارها العسكرية بأدوار سياسية وإقتصادية , من خلال هواجس مزعجة , كفضح هزائمها , أو لمجرد التفكير بمن سيحل محلها ويملئ الفراغ.
وخلال العقدين الأخيرين , قاتلت أمريكا بشكل مباشر أو عبر دعم حلفائها وأدواتها في الشرق الأوسط , وتكبدت تكاليف باهظة , ولم تستطع الفوز بإحلال الإستقرار أو السلام على طريقتها ووفق شروطها , وعلى العكس تماماً فقد فازت بتضاعف أعداد أعدائها , وبتعريض قواتها للمخاطر في عدة دول كالعراق وسوريا ( قاعدة عين الأسد , وقاعدة حقل العمر , وقاعدة كونيكو).
وعلى ما يبدو أنها حررت نفسها ممن يعارضون إنسحابها من الشرق الأوسط , بداعي بقائها لأجل حمايتهم , كإسرائيل ودول الخليج وميلشيات “قسد” وغيرهم , والتي استخدمت لأجل ذلك عناوين مزيفة , كمحاربة تنظيم “داعش” , وضمان عدم انتشار الأسلحة الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل , وحماية اّبار النفط السوري , وحماية الحريات وحقوق الإنسان , ولحماية الأمن الوطني الأمريكي , ولمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية , ولردع أحزاب وفصائل المقاومة اليمنية والعراقية واللبنانية والفلسطينية , وكل من تصنفه منظمة إرهابية على هواها , وعشرات الذرائع الواهية.
لكنها أخفت وراء ذرائعها حقائق كبرى , تقف وراء التفكير الجدي بإنسحابها من الشرق الأوسط , فالدول العربية وبعض دول المنطقة كإيران على سبيل المثال , وعلى الرغم من السعي الأمريكي الخبيث لزرع بذور الكراهية وإثارة الفتن , لا تزال ترغب بإقامة أفضل العلاقات فيما بينها , وتبحث عن الإستقرار والإزدهار , ويمكن بسهولة احتواء المشاكل ما بين كافة الدول العربية وإيران التي تستحق وتستطيع مدّ دول المنطقة بالعلوم والتكنولوجيا والأدوية ولقاحات الكورونا …إلخ , وتبادل التجارة البينية والسياحة …..
بالإضافة إلى ذلك ، فإن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لم يستطيع حماية “إسرائيل” وتفادي هزيمتها في حرب تموز 2006 ، ولم يمنع “حماس” من قصف المناطق والمدن الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب في حرب “سيف القدس” , كذلك لم يستطيع منع الجيش العربي السوري من إلحاق الهزيمة بجحافل الجيوش الإرهابية وأعتى التنظيمات القاعدية , ولم يمنع العراق وفصائل المقاومة العراقية من هزيمة تنظيم الدولة “داعش” , وملاحقة فلوله , وشل حركته خصوصاً على الشريط الحدودي ما بين سوريا والعراق , ومن محاربة الوجود الأمريكي نفسه في العراق لإجبار واشنطن على الخروج والإنسحاب دون قيد أو شرط.
كذلك تسبب التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بتواجد مماثل لأعدائها كروسيا والصين , ولم تستطع التكنولوجيا الحربية الأمريكية الصمود أمام نظيراتها الروسية والصينية والإيرانية , وبدأ حلفاء واشنطن بالبحث عن صفقات السلاح الروسي .
بالإضافة إلى أنها لم تستطع إخضاع إيران وتقليص نفوذها , ووقف إتفاقها الدولي النووي , ولم ولن تستطيع هزيمتها في فيينا, ولم تستطيع تغيير النظام السياسي وعقيدة الجيش العربي السوري , ولم تستطع التأثير على قوة وجهوزية حزب الله , وعلى شرعية وجهوزية الحشد الشعبي , وعلى الحضور القوي المتطور لفصائل المقاومة الفلسطينية .
كما أنها لم تسجل أي نجاح في السيطرة على الملاحة البحرية في مضيق هرمز , ولم تستطع إيجاد حل للصواريخ البالستية الإيرانية وزوارقها الحربية , وبدأت بالبحث عن بدائل في ينبع على البحر الأحمر… ولم تستطع منع تطور الحركة التجارية على خط بكين – موسكو .
وعليه …. يبدو بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط لم يحقق ما كانت تصبو إليه المخططات الأمريكية , وبات عليها استبدال وجودها العسكري بحضور سياسي وإقتصادي قوي , والإبقاء على خطط التحرك العسكري السريع للتدخل عند الضرورة , وبالتالي سيكون إنسحابها – إن حصل – محسوباً بدقة متناهية , على غرار تقليص الرئيس ترامب لعديد القوات الأمريكية في سوريا , وكلامه عن حضوره القوي وقت الحاجة – وكان يعني إعتماده على قواته المتواجدة في العراق -.
ومن حيث النتيجة , أصبح الوجود العسكري في الشرق الأوسط مصدر قلق البيت الأبيض والبنتاغون , نتيجة المصاعب والمضايقات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في العراق على يد أبطال المقاومة في الحشد الشعبي وغير فصائل وأحزاب , كذلك بدأت تصاعد الأبخرة في الجزيرة السورية تشي بمقاومة واعدة , ومدعومة من القيادة والجيش والشعب السوري ومحور المقاومة والحلفاء .
بات على واشنطن حسم المشهد بقراءة براغماتية في مراكز صنع القرار الأمريكي , وبات عليها وضع الخطط الهادئة والمعلنة وبدون قيدٍ أو شرط للخروج الاّمن وبماء الوجه من مركز الصراع الدولي في الشرق الأوسط , ومن أرض التاريخ والبطولة في العراق , ونقطة توازن العالم في سوريا , وبات على الرئيس بايدن اللجوء إلى خبرته الطويلة , وإيقاف “رسائله” العسكرية السخيفة على غرار ذريعة رسائل عدوانه الأخير على الحدود السورية – العراقية إلى إيران , فقد يُسرّع تكرار أخطاؤه من عملية إخراج قواته من العراق وسوريا بطريقة مذلة للغاية…
Views: 0