ميشال كلاغاصي سوريا ماضية، وبكل إصرار وثقة، نحو “تحرير كل شبر”، وعينها على مواجهة السيد الأميركي، وليس على مواجهة أتباع واشنطن في قصر الإليزيه.
لم يعد من السهولة بمكان الحديث عن فرنسا الدولة “العظمى”. وبات من الضروري إثبات التوصيف واللقب وفصل الدعاية عن الحقيقة والسم عن الدسم، إذ لم يعد بإمكانها التغني بأجبانها وعطورها ومبدعيها، وبادعاءات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وباتت تجد نفسها عاجزة عن محو تاريخها الأسود والفظائع التي ارتكبتها بحق عشرات الدول والشعوب، بدءاً من سوريا، وليس انتهاء بأبعد جزر الكاريبي، مروراً بالقرن والساحل العربي والأفريقي، وصولاً إلى غرب وقلب القارة السمراء، بعد أن أثبتت نفسها كقوة استعمار واحتلال بلا قلب ولا رحمة، وغابت عنها الحكمة وبراعة الدبلوماسية، وقادتها ذهنية حمقاء قاصرة، جعلتها تحصد الفشل تلو الفشل، وحوّلتها إلى دولة تابعة تشبه عبيد “مستعمراتها”.. فما عاد صوت “أزنافور” مقنعاً، وجفَّت حنجرة “بياف”، وأصبح حال الدولة الفرنسية “العظمى” كحال داليدا “Une femme à 40 ans” بقولها: “لديَّ القوة والتجربة. واليوم، الشمس أحرقت دموعي”، ونالت حصَّتها من لقب “أوروبا العجوز”.
إنَّ تراكم أخطاء فرنسا من خلال ذهنية الأطماع بالقوة، جعلها، ومنذ سبعينيات القرن المنصرم، تنجب الرؤساء ولا تنجب القادة (شيراك، ساركوزي، هولاند، ماكرون حالياً)، والذين تقاسموا فخر إضاعة إرثها وهيبتها، وارتكبوا الكثير من الأخطاء الفادحة، وأثبتوا عدم قدرتهم على فهم المرحلة والمتغيرات الدولية واستيعابها، وتصرفوا على أساس الماضي وأنها لا تزال الدولة العظمى، الأمر الذي تُرجم بخسارات مباشرة للنفوذ والمصالح الفرنسية حول العالم، فقد سعت من خلال اتفاقية “سايكس بيكو” إلى احتلال سوريا التاريخية، طمعاً بثرواتها وموقعها الجغرافي الذي يمنحها فرصة السيطرة على البوابة الشمالية للشرق الأوسط ولجم الذهنية العثمانية التوسعية نحو منطقة الأطماع الفرنسية، وأدخلت نفسها بصراعٍ مستتر حيناً، ومفضوح حيناً آخر مع أحفاد السلطنة، إذ لا تنفك تركيا عن حشد الإخوان المسلمين والمسلمين في فرنسا للانقلاب على الدولة والرئيس ماكرون. في المقابل، تمارس فرنسا هجومها المضاد من خلال استضافة بعض العناصر الكردية في سوريا ودعمها.
لقد كان لموقف فرنسا “الخاطئ” في معارضة التدخّل العسكري للقطب الأميركي الأوحد في العراق، أثره في كشف عدم فهمها للحجم الفرنسي الضئيل أمام المارد الأميركي والقطب الأوحد حينها، الأمر الذي جعل الأخير يعمد إلى معاقبتها وتأديبها وإعلان تنحيتها مع أخواتها من الدول الأوروبية، على لسان كولن باول الذي نعتها بـ”أوروبا العجوز”.
لقد اضطر الفرنسيون إلى تخفيف حدة غضب الأميركي، ما دفعهم إلى إدخاله في معادلاتهم الخاصة في الشرق الأوسط، وخصوصاً في لبنان، من خلال اشتراكهم بمؤامرة اغتيال رفيق الحريري واتهام سوريا و”حزب الله”. وبذلك، نالت “شرف” تكليفها بمتابعة سياستها المدمرة في سوريا ولبنان، مع فارق خدمتها للمصالح الأميركية عوضاً عن الفرنسية، تكريساً للسياسة الأميركية التي تقبل بالأتباع ولا تقبل بالحلفاء أو الشركاء.
تابع ساركوزي ومن خَلفه المسار الخاطئ للسياسة الخارجية الفرنسية وازدواجية المعايير تجاه ليبيا، وفُضح أمر الرئيس هولاند بين محاربة تنظيم “القاعدة” والتنظيمات الإرهابية الإسلاموية في مالي ودعمها في سوريا.. وأوقع نفسه وبلاده في فخ طرد المتشددين والأصوليين المسلمين وبعض الأئمة من فرنسا، ناهيك بمشكلة “الحجاب”، ووضع بلاده في مرمى تهديد الحركات الإسلامية الجهادية والسلفية التي وجدت في تصدير التكفيريين وإرهابيي “داعش” إلى سوريا حلاً. ورغم ذلك، لم تستطع تفادي الهجمات الإرهابية بعد أحداث “شارلي إيبدو” وهجوم مسرح باتاكلان وسط العاصمة باريس.
كذلك، تاهت فرنسا في البحث عمن يملأ أريافها الفارغة، وعن جيل الشباب والمبدعين، فاستمرت بسياسة سرقة البشر من “مستعمراتها”، واكتظ الشارع الفرنسي بالغرباء، ومنهم الأفارقة، وعشرات العقائد، وبالكاد أصبحت نسبة الفرنسيين الأصليين تعادل 1/8، فاندفعت أحزاب اليمين و”القوميين” للذهاب نحو أقصى اليمين، وغاب اليسار، وتاهت أحزاب الوسط مقابل ملايين الفرنسيين “الجدد”، وأنتجت تلك الفوضى ما بات يعرف بـ”الشعبوية” والشعبويين.
وعبر تاريخها الاستعماري، اكتفت بالقوة والبطش والإرهاب للوصول إلى غاياتها وأطماعها في استعباد الشعوب ونهب ثرواتها ومقدراتها. ولكم في جرائمها وبطشها في تونس والمغرب ومالي وساحل العاج والنيجر والسنغال وتوجو والكاميرون وتشاد والكونغو والغابون وليبيا وسوريا ولبنان نموذج عن سياساتها… ناهيك بمجازرها في الجزائر ومجزرة نهر السين بحق الجزائريين في باريس، من دون أن ننسى مذبحة كالينغو بحق السكان الأصليين في جزر الهند الغربية (الكاريبي) في العام 1626 وقتل الزعيم الثائر “تيغريموند” … كذلك عمدت حتى بعد رحيلها عن بعض أراضي “مستعمراتها” إلى التدخل في شؤون تلك الدول وزعزعة استقرار أنظمتها السياسية، ودعمت عشرات الانقلابات فيها، ودأبت على تنصيب عملائها ودعم ميليشياتها.
لقد أوقعتها تلك الذهنية في أخطاء استراتيجية لم تكن لتحسب حسابها، إذ استغلت احتلالها لسوريا كي تمسك ببوابة الشرق الأوسط الشمالية لإحكام سيطرتها واستفادتها من موقع سوريا الجغرافي للسيطرة على العالم القديم برمته، ودفعت بمشروع تقسيم سوريا إلى 4 دويلات، وكان لها “الفضل” في انقسام الشارع العربي ما بين دعم المشروع العربي انطلاقاً من سوريا ومشروع لبنان الكبير إضعافاً لها، وسعت بقوة لإصدار القرار 1559 لإخراج سوريا من لبنان، والتفرغ للقضاء على المقاومة ونزع سلاحها، ولاحقاً الانضمام إلى التحالف الدولي الستيني الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، لاحتلال سوريا وتدميرها وتقسيمها، بعدما ساقت سموم أكذوبة “الربيع العربي” عبر هنري ليفي.
وعمدت إلى إقامة قواعد عسكرية في الأراضي السورية في شرق البلاد، ودعمت الانفصاليين المحليين والغرباء، ودعمت وموّلت وسلّحت كل أشكال وصنوف الجماعات الإرهابية، ولم يُخف وزير خارجيّتها السابق ج. م. إيرولت إعجابه بما تقوم به “الخوذ البيضاء – تنظيم جبهة النصرة” في سوريا، وعاثت أجهزة استخباراتها فساداً في الجنوب السوري عبر عملائها وبعض الخونة، وشاركت بتطبيق الحصار الأميركي الجائر على سوريا.
كذلك، قبعت خارجيتها منذ العام 2011 في مجلس الأمن الدولي، وقدَّمت عشرات مشاريع القرارات ضد الدولة والشعب السوريين، ووصل بها الحال إلى تقديم مشروع قرار إلغاء الفيتو، لحرمان سوريا من دعم المنصفين والحلفاء، وحملت على كتفها ملف السلاح الكيماوي المزيّف والمزور، وتجرأت على رسم الخطوط الحمراء لدمشق.
وفي الشرق السوري، لجأت إلى استخدام كرد سوريا للضغط على دمشق، عبر دعم وتسويق المشروع الانفصالي عن الدولة السورية، ولم تتوقف عن استقبال بعض الوفود والشخصيات؛ ففي أيار/مايو الماضي، زار مدينة القامشلي خلسةً وفد من مؤسّسة “دانييل ميتران وقاعة مدينة باريس”، كذلك تلقت “رئيسة بلدية الرقة” دعوة رسمية من نظيرتها “آن هيدالغو” لزيارة باريس.
كما استقبل الرئيس ماكرون في 19 تموز/يوليو وفداً كردياً سورياً في باريس. أراد الوفد لقاءه للحصول على الدعم الفرنسي لاعتراف المجتمع الدولي بالإدارة الذاتية، واستخدام وسائل العالم الافتراضي للتصويت على الانفصال، ما يوضح ضحالة ووقاحة العقل الفرنسي في استحداث ورقة تكون ضاغطة على دمشق في أية مفاوضات قادمة، الأمر الذي يؤكد السعي الفرنسي لمنع وحدة أراضي الدولة السورية، رغم التبجّح الفرنسي بدعم القرار الأممي 2254.
وقد تلقى هذا الاجتماع رداً سورياً طال فرنسا بشكل غير مباشر، وحذّرت فيه الخارجية السورية “قسد” من جولاتها الترويجية لمشاريعها الانفصالية “التي يرفضها الشعب السوري بكل أطيافه”. ومؤخراً، وفي موقف عدائي إضافي، دانت الخارجية الفرنسية، في بيان، التحرك العسكري السوري نحو الجنوب لتطهير درعا وما حولها من الإرهابيين والانفصاليين، واستخدمت فيه مفرداتٍ وقحة ومجافية للحقيقة، وصريحة لجهة العداء الفرنسي الرهيب للدولة والشعب السوري، وسط تأكيد الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية أن كل المناطق السورية “لن تستعيد الاستقرار في ظل غياب عملية سياسية” لطالما شاركت فرنسا بمنعها.
واستدعى البيان الفرنسي رداً قوياً من الخارجية السورية، أكدت من خلاله “الرفض السوري التام” للادعاءات الفرنسية المبنية “على الكذب والنفاق ودعم الإرهاب”، واستمرار النظام الفرنسي “بتقديم الدعم المادي والإعلامي للإرهابيين والانفصاليين في سوريا، خلافاً لجميع قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى الحفاظ على وحدة الشعب السوري وترابه الوطني واستقلاله وسيادته”.
ختاماً، لا بد من أن يكون واضحاً أن القضية الأساسية بالنسبة إلى دمشق هي رفض الوجود الأجنبي اللاشرعي على كامل الأراضي السورية، وأن الدعم الغربي والفرنسي، وخصوصاً للإرهابيين والانفصاليين، في المناطق الأكثر حيوية للدولة والشعب السوري، يعتبر احتلالاً سافراً وتدخلاً في الشؤون الداخلية السورية، ويتعارض مع القانون الدولي والإنساني وميثاق الأمم المتحدة، ويساهم بمنع سوريا من محاربة الإرهاب، ويشكل خطراً على وحدة أراضيها وسيادتها، ويساهم بإطالة أمد الحرب عليها، وبتفاقم آثار العقوبات الغربية الظالمة الأحادية الجانب الفرنسية والغربية، ويطال شعبها بشكل رئيسي ومباشر في حياتهم وقوتهم وفي مواجهة جائحة كورونا، لكن سوريا ماضية، وبكل إصرار وثقة، نحو “تحرير كل شبر”، وعينها على مواجهة السيد الأميركي، وليس على مواجهة أتباع واشنطن في قصر الإليزيه، الذين ما زالوا يعيشون أوهام “الدولة الفرنسية العظمى”، بعدما أظهروا للسوريين عدائية بما يكفي لإزالة مساحيق التجميل عن الوجه الفرنسي القبيح منذ قرن وحتى اليوم.
Views: 1