ماذا يجري في السودان وللسودان؟ ولمصلحة من هذا “الكشف العظيم” من قِبَل المجلس العسكري الحاكِم عن “مِليارات” حماس واستِثماراتها “الضّخمة جدًّا” في الخرطوم؟ وهل امتِلاك فُندق في عاصمةٍ عربيّةٍ تُطَبِّع حُكومتها مع الاحتِلال بات من “أُمّ الكبائر”؟
عبد الباري عطوان
خطا المجلس العسكري السوداني الحاكِم خطوةً مُعيبةً ومُستَهجنَةً لتوثيق عُلاقاته مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكيّة بالإعلان عن تفكيك “امبراطوريّة” حماس الماليّة في السودان التي قدّرتها تسريبات من قِبَله إلى وكالة أنباء “رويترز” بِما يَقرُب المِليار ونِصف المِليار دولار، وتشمل 12 شركة تجاريّة وفُندقًا في قلب العاصمة، وأكثر من مِليون هكتار من الأراضي الزراعيّة، ومحطّة تلفزيونيّة.
هُناك مثل عربي دارج يقول “كيف عرفت أنّها كذبة، ويأتي الجواب لأنّك كبّرتها”، أو ما قاله الفنان الكويتي الكبير سعد الفرج في أحد مسرحيّاته “ودّي أصدّق ولكنّها كبيرة كبيرة جدًّا”، وهذا المثَل وهذه العبارة تنطبق على هذا الكشف “العرمرم” لقادة الانقِلاب العسكري السوداني الواردة تفاصيله آنِفًا.
فكيف تملك حركة حماس أكثر من مِليار دولار من الاستِثمارات والمصالح التجاريّة في السودان، وكلّها أعمال مشروعة وقانونيّة إذا صحّت، بينما لا تجد بضعة ملايين شهريًّا لتسديد رواتب مُجاهديها، وأُسَر الشّهداء والأسرى، والمُوظّفين في مُؤسّساتها الأمنيّة والمدنيّة خاصَّةً بعد الإطاحة بحُلفائها في جبهة الإنقاذ الإسلاميّة ورئيسها عمر البشير، من قِبَل انقِلاب عام 2019، وبتَدبيرٍ ودَعمٍ أمريكيّ خليجيّ؟ ثُمّ أين الخطأ؟ فهل التّجارة باتت حلال على الإسرائيليين وحرامًا على العرب والمُسلمين في “سودان اليوم”؟
***
وجود حركة “حماس” في السودان لم يَكُن سِرًّا، أو تحت الأرض، وكان يحظى بدَعمِ الشعب السوداني الوطني الشّريف، ولم نُشاهد مُظاهرةً واحدةً، أو أحدًا رفع لافتة واحدة في الخرطوم تُطالب بطردها من البِلاد، أو وقف الدّعم لها، حتى بعد الغارات العُدوانيّة الأمريكيّة على معامل الدّواء، والأهداف المدنيّة، أو نظيرتها الإسرائيليّة على ميناء بورسودان الذي كان بوّابة تهريب شُحنات الأسلحة الإيرانيّة إلى فصائل المُقاومة في القِطاع.
حتى إذا صحّت الرّواية العسكريّة وكُل ما ورد فيها من اتّهامات، فهي تُدين أصحابها، وتَكشِف نواياهم في الانحِياز لدَولةٍ إسرائيليّةٍ عُنصريّة ترتكب المجازر وجرائم الحرب، وتُهَوِّد الأرض والمُقدّسات في فِلسطين المُحتلّة، فحركة “حماس”، وحسب الرّواية الرسميّة كانت تدعم الاقتِصاد السوداني باستِثماراتها “الحلال”، وتُوَظِّف المِئات، إن لم يَكُن الآلاف من أشقّائها السودانيين في شركاتها، ومشروعاتها الزراعيّة في وَقتٍ كان حُلفاء المجلس العسكري الحاكِم يَفرِضون الحِصار التّجويعي على الشعب السوداني.
لا يُعيب حركة “حماس”، أو أيّ فصيل فِلسطيني آخَر مُقاوم أن يُؤسِّس شركات تعود عليه بالرّبح الحلال في بلدٍ عربيٍّ مُسلمٍ شقيق، لتمويل عمليّاته الجِهاديّة لتحرير أرضه ومُقدّساته، في ظِل العُقوق الحُكومي العربي، ولهذا لا نعرف على أيّ قاعدة “إسلاميّة” أو “أخلاقيّة” يتباهى النّظام العسكري الحاكِم بهذا الكشف “العظيم” عن هذه الشّركات، ويُقدِم على تجريمها، ويفتح أرض السودان في الوقت نفسه على مِصراعيها أمام الشّركات والاستِثمارات الإسرائيليّة.
هل أقدمت أيّ دولة إفريقيّة على تجريم تحرّكات المُقاومة للإطاحة بالنّظام العُنصري في جنوب إفريقيا، واعتبرتها إرهابًا، وشهّرت بها بهذه الطّريقة، وهل جفّفت مصادر الدّعم للمُؤتمر الوطني الإفريقي بزعامة شيخ المُقاومين نيلسون مانديلا بِما في ذلك منع التبرّعات الماليّة؟
***
حركة “حماس”، ونقول للمَرّة الثّالثة أو العاشرة، لم تُؤسِّس مصانع أسلحة في الخرطوم، ولم تُتاجِر بالمُخدّرات، ولم تفتح ملاهي ليليّة، ولم تَسْرِق جنيهًا واحدًا من قُوت الشعب السوداني، فهل امتِلاكها أراضٍ زراعيّة وفُندقًا في قلب الخرطوم، رِجْسٌ من عَمَلِ الشيطان، أو يُشَكِّل انتِهاكًا للسّيادة السودانيّة؟
نَشْعُر بالحُزن والألم لانحِدار المجلس العسكري الحاكم في السودان إلى هذا المُستوى من الهُبوط، بتوجيه سِهامه إلى حركةٍ فِلسطينيّةٍ مُقاومة لاحتِلال أرضها، ومُقدّسات الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، لتَحويل الأنظار عن أخطائه، ورِهاناته الخاسِرة على التّطبيع، والوقوف في الخندق الأمريكي الذي لم يَفِ بأيٍّ من وعوده، ويعمل علانيّةً على تجويع الشعب السوداني، وتفتيت أراضيه، ووحدته الترابيّة والوطنيّة، ودعم المُخطّطات الإثيوبيّة لسَرِقَة حُقوقه المائيّة.. واللُه المُستعان.
Views: 5