البعض يرى أن الشاعر الحقيقي هو الذي يمتلك الرؤية التي من خلالها يستكنه بواطن المستقبل ويكشف عما سوف يحدث، وأما من يكتب الواقع كما هو فليس أكثر من ناظم ولا يحق له لقب الشاعر. ويرى البعض أن الشاعر بحسه الشعري وقراءته لواقع أمته السياسي والثقافي والتاريخي يستطيع أن يرسم صورة المستقبل لأنه من أهم المتابعين والراصدين لحركة الأمة على كل المستويات، وتالياً يمكن له أن يجازف ويعلن عما سوف يكون عليه المستقبل ويبدأ على هذا الأساس يتعامل مع واقعه فنياً على اعتبار ما سوف يكون..
يقول الشاعر عباس حيروقة: كان وما زال وسيبقى الشعر الأكثر قدرة على تقديم تصورات رؤيوية لمستقبل ما، وتتأتى له هذه الميزة من بين جميع مفردات المنظومة المعرفية، وخاصة الأدبية منها، من خلال تملّكه أدوات التعامل مع الزمن فهو القادر على تفكيك الزمن الميقاتي الفيزيائي والاجتماعي وإعادة تشكيل وعيه وفق ثقافة مغايرة تأصيلية تأسيسية معرفية بعد الإمعان مطولاً في الحراك السياسي والاقتصادي والفكري، فينتج رؤى ونبوءات وتجليات مستقبلية، وغالباً لا يتم التعاطي المرحلي الآني مع تلك النبوءات إلا بعد فوات الأوان.
ويضيف حيروقة: من بدهيات أي منظومة معرفية وأولى مفرداتها «التنوير» ومن ألف باء التنوير تشكيل جبهة وطنية إنسانية في وجه الظلاميين من أبناء الكهوف والأقبية الرطبة, في وجه ثقافة الفساد والإفساد التي مورست عقوداً إن لم نقل قروناً للوصول بالإنسان إلى ما وصل إليه،.. هم حاولوا أن ينأوا بالثقافة وبالشعر.. بالفكر.. بالفلسفة.. عن تلك المفردات الحضارية التي تعمل على النهوض بالإنسان تجاه وطن يرفل بالسلام وبالخير.. بالحرية وبالقانون, فعملوا على كل ما يجعل المثقف مهمّشاً بلا أحلام,.. يضيف حيروقة: جلُّ الشعراء من عرب ومن عجم دعوا، من خلال قصائدهم، إلى إحلال السلام ونبذ ثقافة العنصرية, وكل أشكال العبودية ونادوا بالمحبة؛ زهير بن أبي سلمى – المتنبي – أبو النواس – رسول حمزاتوف – لوركا – طاغور..الخ.. العدالة والحرية والانتماء هي من أبجديات الشعر والفكر والثقافة… والانتصار للخير، للسلام، للضوء للنور، بداهة الإنسان الحق..
الشاعر هيثم أحمد المخللاتي رأى أن الشعر من مقدسات العرب التي تدوّن مشاعرهم واهتماماتهم، يقول: الشعر ديوانهم المقدس الذي اجتمعت فيه كل معاني الحب والتكريم والمدح والقدح أيضاً، ناهيك بأنه رسالة بين العاشق ومعشوقته أو بين الراعي ورعيته أو بين الحمى والمحمي فيه، فمن الشعر الروحي المتصل بالعاطفة إلى الشعر السياسي إلى الشعر الذي يتنبأ فيه الشاعر بأحداث مستقبلية ستحصل، فنجد نبوءات الشاعر اليمني عبد الله البردوني للأحداث والصراعات التي ستحدث في اليمن وأهم التغيرات السياسية الطارئة فقصيدته «صنعاء الموت والميلاد» التي كتبها سنة 1970 كانت نبوءتها بإعلان مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، وكل الأحدث الدامية التي نراها اليوم تنبأ بها الشاعر فرسم الأحداث كلمات بقصيدته الرائعة، وخلص مخللاتي للقول: ليس للنبوءة اليوم مكان، لكن دور الشاعر في هذه المرحلة تخليد هذه الحقبة للتاريخ..
الشاعر نزيه إبراهيم صقر قال: لا يمكن أن ينتهي شعر النبوءات لأن الشعر نبوءة وحياة، الحياة في حالة كشف مستمر حيث البواطن التي يتم إيقاظها واستنباطها كي توضع سكة المسيرة، ومن دون هذا الكشف المتواصل يكون السكون والثبات الذي هو مناقض لقوانين الحياة، أما الإغراق في التفاصيل فقد يبسط الأمور ويسطحها، لكن يجوز استخدام بعض التفاصيل من أجل ترميزها وصبٌها في سياق وإشارات جديدة تجدد مسيرة الشعر وتدفع بها نحو الأمام..
أما الشاعر سامر محمود الخطيب فيرى أن الشعر مرآة للحالة الوجودية ولتكويننا الفطري، يضيف: هو مساكب وجدانية وانعكاسات جوهرية لحالاتنا المغمسة بالألم والأمل والتأمل والرؤية.. هو قراءة إشراقية لما وراء المشهد من خلال المشهد ذاته بهوامشه وتفاصيله ولكنه في الوقت نفسه رسول يبلغ رسالته العميقة التي يجب أن تقرّ بما كان وما يجب أن يكون، ومن دون ذلك يصبح نشرة إخبارية تصور المشهد بحالته الخارجية.. ويخلص الشاعر الخطيب إلى القول: إن الشعر إذا لم يكن يحمل بصراً وبصيرة وخلقاً وبعثاً ورؤية جديدة فهو جسد يتعرض للفناء والزوال ويسقط في تابوت التقليد الضيق. وأضاف: الشعر استقراء واستشراق وحدائق نور ومفتاح ﻷبواب الزمن الجديد وإذا لم يكن كذلك فهو رسم على دفاتر تبليها اﻷيام وتهزأ بها اﻷقلام.
Views: 3