إبقاء مصرف لبنان على سعر صرف 3900 ليرة للسحوبات من الودائع بالدولار، وتجاوز سعر الصرف الحقيقي 20 ألف ليرة لم يحنّن “قلب” البنوك، ويدفعها إلى فكّ القيود عن السحوبات. رضي المودع باقتطاع 81 في المئة من وديعته، ولم ترضَ المصارف برفع سقف السحوبات التي وضعتها بشكل استنسابي ومن دون أي مبرر أو مسوغ قانوني. الأمر الذي يطرح سؤالاً جدياً على القطبة التي تخفيها المصارف بالتكافل والتضامن مع السلطة والمصرف المركزي!
المودعون بشكل عام، وأصحاب الرواتب الموطنة بالدولار بشكل خاص، يتعرضون لـ”مجزرة” نقدية واجتماعية. فالفئة الاخيرة لا يمكنها الاستفادة من التعميم 158، وهي مضطرة إلى سحب نسبة ضئيلة من رواتبها (تحددها بعض المصارف بـ 400 دولار) على أساس التعميم 151، أي على سعر صرف 3900 ليرة، والباقي يسدد على سعر الصرف الرسمي أي 1500 ليرة. وعليه من يتقاضى راتباً بقيمة 1000 دولار لا يصله من المصرف إلا 2.5 مليون ليرة، فيما يفترض التعميم 151 نيله 3.9 ملايين ليرة، والمنطق 21 مليوناً. هذا الفرق يرتفع كلما زاد حجم الراتب أو الوديعة، وهو يشكل للآلاف من المودعين “البحصة” التي قد تسند “خابية” الارتفاع الهائل في الاسعار والمتطلبات الحياتية. لكن بماذا يفيد المصرف
المصارف من وضع السقوف
لا يلحظ التعميم 151 أي قيود على حجم أو كمية السحوبات، إنما أعطى المصارف الحق بتحديد السقوف كلاً حسب مصلحته. في المقابل قبلت البنوك، طوعاً، الالتزام بسقوف السحب التي رسمها المركزي في التعميم 158، مع العلم أنها ليست بحاجة إلى أي تعميم لارجاع الحقوق لاصحابها؛ فهذا الحق مكفول في الدستور ويحميه القانون. وعليه فان “المصارف لن تكون مخالفة لأي قانون إذا قررت توسيع رقعة الإستفادة من أحكام التعاميم 158 و151 لتسمح بسحوبات تفوق 400 دولار شهرياً. وأيضاً لتسمح للمودع الواحد بالإستفادة من أحكام التعميمين في آن واحد ومن المصرف نفسه”، برأي الباحث في الإقتصاد، وخبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي، و”هذا ما لم تفعله بسبب التزامها الجزئي والظرفي المحدد بمزاجية فاضحة في تطبيق تعاميم مصرف لبنان، من جهة، وغياب الرقابة من جهة ثانية. وكأن الحاجة للجنة الرقابة على المصارف إنتفت وانتهت. فلا نرى ولا نسمع عن أي تدابير أتخذت من قبل السلطات الرقابية بحق هذه المصارف”.
مصلحتها أولاً
قبل سنة من اليوم وضع مصرف لبنان “كوتا” لسحوبات المصارف من حساباتها الجارية بالليرة لديه. وكل مبلغ يتخطى هذا السقف يحسم من حسابات المصارف المجمدة أو من شهادات الإيداع التي ما زالت تتقاضى المصارف عليها فوائد بنسبة 10 في المئة. ومن المعروف أن السحوبات النقدية للمصارف بالليرة تحتسب وفق آلية محددة من مصرف لبنان ترتبط بعدد الفروع العاملة على الأراضي اللبنانية، وعدد الصرافات الآلية، وعدد تواطين الرواتب بالليرة. وعليه فان رفع سقف السحوبات من حسابات الدولار سيعرض المصارف لجزاءات ويقلل أرباحها من توظيفاتها في مصرف لبنان. لكن في المقابل تسييل الودائع بالدولار على أساس التعميمين 158 و151 يقلل من مطلوباتها ويحقق ربحاً صافياً لها. من هنا أوجدت المصارف التوليفة التي تناسبها والتي تقوم على أساسين:
الأول، اتخاذ إجراءات لتخفيف السحوبات بالليرة طالت حتى من يملك حسابات بالعملة الوطنية أو أصحاب تواطين الرواتب بالليرة. وهذا ما تمثل في تقليص أعداد الصرافات الآلية، واقفالها، وتعطيلها لساعات طويلة، ومنع المؤسسات الخاصة من تحويل رواتب موظفيها من حساباتها، واشتراط احضارها المبالغ نقداً، وفرض عمولات وصلت لـ 12 في المئة على التحويل من حسابات الشركات إلى حسابات التوطين.
الثاني، استغلال التعميمين 151 و158 لتخفيض مطلوباتها واستعمال الفرق لما يخدم مصلحتها
نفخ أصولها بأموال المودعين
وبحسب فحيلي فان الخوف من أن تكون المصارف تنوي في المحور الثالث، الذي يلي التعميمين 151 و158 الاستفادة من تخفيض مطلوباتها تجاه عملائها، أي تخفيض الودائع واستعمال الفرق لتسديد المزيد من الودائع الكبيرة بـ”الشيك بنكير” (المصرفي)، أو توظيف الفائض النقدي بمؤسسات صيرفة تكون لها مونة عليها. وبهذه الطريقة تستخدم المصارف الفرق أو الفائض لاعادة رسملة نفسها وضخ رأسمال جديد بالدولار في “عروقها المنشّفة”. وللتوضيح فالمصرف الذي يسدد وديعة بقيمة مليون دولار بـ 200 ألف دولار سيحقق وفراً بقيمة 800 ألف دولار يمكنه تدويرها مع الاصول وبالتالي المساهمة برسملة نفسه”. ما يعزز هذه الفرضية أكثر بحسب فحيلي أن “المصارف تمتلك مبالغ من البنكنوت بالدولار، وهي إن كانت قد توقفت أوائل العام الماضي عن إعطائه للمودع، فهذا لا يعني أنها غير موجودة. وبالمقارنة بين استثمار هذه المبالغ بالدولار بالسوق الرسمية وتلبية سحوبات المودعين رسمياً وقانونياً، تفضل أن توظف هذا الفائض لمصلحتها. فهي إما تتاجر بالشيكات البنكية لتسديد متطلبات بأقل من 80 في المئة من قيمتها، وإما توظف النقد في أسواق معينة ومؤسسات صيرفة تعود عليها بالربح الكبير”. هذا الواقع كان قد شجع عليه مصرف لبنان في منتصف العام 2020، من خلال إصدار تعميم جديد يتيح زيادة أصول المصارف من دون أن تقدم أي أموال جديدة. وذلك عبر أدوات جديدة من أي نوع من الادوات الرأسمالية بالعملات الاجنبية التي يمكن قبولها ضمن مختلف فئات الاموال الخاصة. وعليه حتى لو كان الفارق بتسديد الودائع بحسب التعميمين بـ”اللولار” وليس دولارات نقدية، فهو يعتبر ضخاً للرأسمال في ميزانيات المصارف.
الشفافية أولاً
في مقابل تحجج المصارف بالتضخم الذي سينشأ عن توسع الكتلة النقدية بالليرة م1 لتحديدها كمية المبالغ المسموح سحبها بالليرة، فهي لا تجيب على السؤال التالي: “ما الضرر في زيادة الكميات المسحوبة بحسب التعميم 151 واشتراط استعمالها ببطاقات الاعتماد أو الشيكات فقط؟”، يسـأل فحيلي. ألا يساعد ذلك الآلاف من أصحاب الودائع بتأمين جزء أكبر من احتياجاتهم؟! وتعقيباً على هذا السؤال ما الضرر كان برفع سقف السحوبات بحسب التعميم 151 إلى 12 ألف ليرة أو أكثر واشتراط الحد من السحوبات. ألم يكن مثل هذا الاجراء ليقلص الاقتطاعات إلى النصف ويحمي الودائع ويطيل فترة استخدامها امام المواطنين الذين يعانون من الفقر وارتفاع الاسعار؟ وبحسب فحيلي فان “هناك الكثير من الممارسات التي تبقى ضبابية ولا تساهم في ترميم الثقة بين المصرف والزبائن أصحاب الودائع على وجه خاص. كما أن غياب الشفافية، وإمتناع المصارف عن التواصل الدائم مع عملائها، وصمت جمعية مصارف لبنان في هذه الأوقات والظروف الذي يمر بها القطاع المصرفي، كلها تنعكس سلباً على سلامة القطاع المصرفي المحلي وعلى قدرته على الإستمرار بعافية ولعب دور فعّال في مسيرة الإنقاذ والتعافي الإقتصادي”.
هذه الأسئلة ستبقى من دون أجوبة ما لم يتم الاتفاق على تصور واحد وعادل لكيفية احتساب الخسائر وتوزيعها وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. وإلا، فان المودعين وحدهم سيتحملون العبء مرتين، مرة باقتطاعات جهنمية من حساباتهم، ومرة بالتضخم وتحمل ارتفاع الأسعار
Views: 4