قبل أيام قليلة أعلنت السلطات التركية أنها شرعت في اتخاذ إجراءات قانونية ضد 30 شخصا، اتهموا بنشر سلسلة تغريدات على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” تزعم وفاة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.
وهؤلاء الأشخاص، بحسب بيان أصدرته الشرطة، كانوا قد نشروا “محتوى مضللا” باستخدام هاشتاغ “#olmus”، ويعني “ميّت” باللغة التركية أو “في ذمة الله تعالى”، في خطوة أثارت الجدل على مستوى كبير، ودفعت دائرة الاتصال في الرئاسة التركية لنفيها على الفور.
ولم تقف الدائرة الإعلامية عند ذلك، بل اتجهت لرد من نوع آخر، حيث نشرت تسجيلات مصورة لإردوغان. واحد منها أظهره وهو يستعد للسفر إلى العاصمة أنقرة بطائرة مروحية، وآخر وثّق نشاطاته الرياضية أثناء لعب كرة السلة مع عدد من الشبان.
ومنذ أكثر من شهرين تسلطت معظم الأضواء داخل المشهد الداخلي لتركيا على صحة الرئيس، وفي ذات الوقت كثرت التساؤلات وحالة الجدل ما بين الأوساط المؤيدة للحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وأحزاب المعارضة، على رأسها “حزب الشعب الجمهوري”.
وبينما كان هناك نفي وتأكيد من جهة، وريبة من جهة أخرى، اتضحت ملامح معادلة من شقين، عمادها الأول الأطراف التي تبث تلك الشكوك بشأن صحة إردوغان وقدرته على القيادة.
فيما اتجهت أطراف أخرى للرد بتسجيلات مصورة تظهره بـ”القوي القادر على استلام دفة القيادة سواء في الوقت الحالي، أو مستقبلا استعدادا للانتخابات المقبلة المقررة في 2023″.
ويقول باحثون أتراك في حديث لموقع “الحرة”الامريكي ، إن ما سبق لا يمكن فصله عن “الحملات الانتخابية”، التي تحاول أحزاب المعارضة التركية تصديرها إعلاميا لغايات قد تتضح ملامحها أكثر خلال الأشهر المقبلة.
ويضيف الباحث بالشأن التركي، محمود علوش، لـ”الحرة” أن “الهدف الرئيسي لمثل هذه الشائعات حول صحة إردوغان هو محاولة إظهاره كقائد ضعيف، وعاجز عن مواصلة الحكم لفترة أخرى”.
ويشير: “عادة ما تجد مثل هذه الشائعات تأثيرا عند البعض لكنّها تفقد تأثيرها مع كل نفي لها”.
“من الداخل إلى الخارج”
ولم يقتصر الحديث المتداول عن صحة إردوغان على الداخل خلال الأسابيع الماضية، حيث تعدى ذلك إلى الخارج، وأصبح حديث وسائل الإعلام العالمية أيضا.
مجلة “فورن بوليسي” نشرت تقريرا في مطلع أكتوبر الماضي، لفتت فيه إلى “مؤشرات قد تعني أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان (67 عاما) قد يكون مريضا إلى مرحلة تجعل إعادة انتخابه صعبة”.
واستعرضت المجلة تسجيلات مصورة ضمن تقريرها، وأشارت إلى نتيجة مفادها أن “إردوغان ليس على ما يرام”.
من جهتها نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مدير برنامج الأبحاث التركية بمعهد واشنطن، سونر جاغابتاي، قوله: لقد ظل (إردوغان) في منصبه لفترة طويلة جدا وبالتالي يبدو أنه يعاني من إرهاق السلطة”.
وأضاف في سياق تقرير الصحيفة الأميركية: “ببساطة هو متعب للغاية بحيث لا يمكنه التحكم بخيوط اللعبة والمنافسة طوال الوقت”.
وبينما يشير الباحث علوش إلى تصاعد ملحوظ في ظاهرة “الشائعات المضللة” ضمن الداخل التركي، يقول: “هي ستزداد كلّما اقتربنا من الانتخابات”.
واعتبر أن “الشائعات لا تهدف إلى إثبات مصداقيتها بقدر إثارة الشكوك لدى الرأي العام حول مدى فعالية أداء الحكومة أو صحّة الرئيس. لذلك هي تُحقق بعضا من أهدافها بمُجرّد تداولها”.
وفي السابق، كان تأثير الشائعات المُضلّلة محدودا بالنّظر إلى وجود قوانين تفرض قيودا على تداولها في وسائل الإعلام من دون التحقق من صحّتها.
لكن اليوم، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة، يُمكن لأي شائعة أن تصل إلى أكبر عدد من الناس من دون قيود، مما يجعلها مؤثرة.
ويوضح علوش: “يحاول المسؤولون في حكومة إردوغان التعامل بسرعة مع مثل هذه الشائعات سواء بالنفي المباشر أو غير المباشر لها، خصوصا أن بعضها يتناول مسائل حسّاسة كصحة الرئيس أو الوضع الاقتصادي، وتجاهلها لا يحد من تأثيرها السلبي”.
“أجندة سياسية”
من جانبه يرى الباحث السياسي التركي، هشام جوناي، أن “الشائعات التي تخرج إلى العلن مبنية على صور.. هذه الصور توضح صعوبة المشي لإردوغان، في مشهد عرضته دائرة الاتصال نفسها”.
ويقول جوناي لموقع “الحرة”: “استنادا إلى الصور التي تنقلها وسائل الإعلام المتداولة بشكل يومي، بنت المعارضة سياسة وأجندة واتجهت للترويج بأن الرئيس ليس لديه القدرة الصحية لإدارة البلاد”.
واعتبر الباحث التركي أن “هذا الأمر يؤثر على المشهد السياسي وشعبية إردوغان بشكل خاص”.
وعلى عكس السائد قبل سنوات، وبحسب المعطيات المفروضة على الساحة الداخلية، تسود “أجواء انتخابية مبكرة” في تركيا، وهو ما تؤكده الاستعدادات التي تبديها الأحزاب السياسية، سواء الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وحليفه من جهة، وأحزاب المعارضة التركية في مقدمتها “حزب الشعب الجمهوري”، من جهة أخرى.
وكان ملاحظا قبل أكثر من عام تركيز المعارضة على توجيه الاتهامات للحزب الحاكم، سواء تلك المرتبطة بالسياسة الداخلية للبلاد، أو التي تصب في إطار الوضع الاقتصادي العام.
في المقابل التزم “العدالة والتنمية” وحليفه “الحركة القومية” في مسار لم يخرج عن إطار الاستعدادات أيضا، لكن بصورة مختلفة، حيث أكد على خطواته المرتبطة بتعديل الدستور، والإجراءات المرتبطة بتنظيم الانتخابات.
وما بين هذين المسارين تتضارب نتائج الاستطلاعات التي تنشرها مراكز الأبحاث في تركيا.
وبينما يظهر البعض منها انخفاضا ملحوظا في شعبية الحزب الحاكم، توضح أخرى أن النتائج لا يمكن حسمها في الوقت الحالي، مع ترجيحات بميلان كفة “العدالة والتنمية” على حساب الأحزاب الأخرى في الاستحقاق الذي ينتظره الكثيرون.
“حملات على أكثر من جهة”
في غضون ذلك يشير الباحث علوش إلى أنه وقبل كل انتخابات في تركيا “تُثار شائعات كثيرة بشأن صحّة إردوغان”.
ويقول: “هي مبنية في غالبيتها على تكهّنات وتحليلات لمشاهد مصورة يظهر فيها الرئيس على أنّه غير قادر على الحركة أو الوقوف بشكل طبيعي، مع العلم أن كثيرا من المؤتمرات الصحفية التي يعقدها يكون فيها واقفا ولمدة تقترب من ساعة في بعض الأحيان”.
وأضاف علوش أنه “عادة ما ترد الرئاسة عليها بنشر فيديوهات للرئيس وهو يمارس الرياضة”.
وكان لافتا في الأسابيع الماضية أن التعاطي الرئاسي مع تلك “الشائعات” كان ضمن سياق وحيد، وهو إظهار إردوغان بكامل صحة البدنية، بعد نشر تسجيلات مصورة معظمها في أثناء لعبه لكرة السلة.
ويثير ذلك الرد تكهنات حول أسباب الرد الفوري من أعلى المستويات، والغايات التي تقف وراء ذلك، سواء داخليا أو على مستوى السياسة الخارجية.
وبوجهة نظر تختلف عما سبق، يقول الباحث جوناي إن إردوغان كان قد بنى “أجندة أساسية تعتمد على القوة والصوت العالي والنبرة العالية، بالإضافة إلى انتقاد السياسيين سابقا من زاوية صحتهم”.
ويضيف جوناي: “انتقد سابقا بولنت أجاويد لعدم استقالته عندما كان مريضا، كما انتقد نجم الدين أربكان، واتهمه بأنه لا يترك المجال للشباب في تولي دفة القيادة”.
واعتبر جوناي أن “الأقوال التي وجهها إردوغان في الماضي تدفع وسائل إعلام المعارضة والأحزاب أيضا لتصديرها ضده من جديد، وأنه وصل إلى مرحلة تعب معينة”.
“الحالة لن تنتهي”
وتشير جميع المعطيات المفروضة إلى أن حالة الاستقطاب والجدل السياسي لن تنتهي بسهولة في الداخل التركي. ويرتبط ذلك بمحاولات أحزاب المعارضة استثمار أي أزمة أو كارثة لمجابهة الحكومة، في خطوة للاستعداد للانتخابات المقبلة في 2023.
وخلال الأسابيع الماضية ساد جدل بشأن ملف اللاجئين في البلاد، وصولا إلى ما يدور الحديث عنه الآن من تبعات انخفاض قيمة الليرة التركية في سوق العملات الأجنبية.
وقبل ذلك تصاعد جدل كبير في الأشهر السابقة، بسبب قضية “زعيم المافيا” التركي، سادات بكر، والفيديوهات التي نشرها، وقال إنها تكشف ملفات الفساد داخل الحكومة.
ويتوقع جوناي أن تؤثر “الشائعات والشكوك الحالية على المشهد السياسي في المرحلة المقبلة”.
وبشأن التعاطي الرئاسي معها، يضيف جوناي أن “ذلك بعيد كل البعد عن إقناع الرأي العام، بل تحول إلى مصدر انتقاد آخر لأحزاب المعارضة. هذه الأحزاب تقول إن الرئاسة كانت تروج للرئيس في السابق على أن إردوغان قائد للأمة والشعب، والآن تروّج على أنه بصحة جيدة”.
ويتابع الباحث: “إذا كان هناك انتخابات فهذه المشاهد ستكون سيدة الموقف ويمكن أن تغير المشهد السياسي”.
ولا يزال هناك عامان على الانتخابات الرئاسية، المقرر تنظيمها في يونيو 2023.
وبحسب ما قال الباحثون لموقع “الحرة” فإن “هناك عوامل محسومة في تحديد خيارات الناخب التركي وغير قابلة للتغيير كالأيديولوجيا. العوامل الأخرى كالاقتصاد وخارطة التحالفات السياسية وغيرها قابلة للتغيير”.
وفي الوقت الحالي، لا تبدو ملامح واضحة لما ستكون عليه التحالفات في المرحلة المقبلة.
وبينما يبرز إردوغان كمرشح أساسي لـ”تحالف الجمهور” (حزب العدالة والتنمية، حزب الحركة القومية)، لا تلوح في الأفق أي بوادر اتفاق بين أحزاب المعارضة المتحالفة ضمن “تحالف الأمة” على اسم مرشحها، أو ربما مرشحيها.
الحرة – واشنطن
Views: 1